الحركات الاحتجاجية في أوروبا مجرد صيحات غضب

الأنظمة الليبرالية أوجدت آليات معالجة ذاتية لكل مشاكلها، ولم تترك الفرصة للارتجالات العشوائية أو التدخلات الخارجية والخارجة عن إرادتها.
الثلاثاء 2018/11/27
نفس قصير

المطّلع على الرسالة المفتوحة التي بعثت بها طالبة فرنسية (17 عاما) إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونشرتها جريدة “لو باريزيان”، يوم السبت الماضي، في غمرة تصاعد احتجاجات حركة أصحاب “السترات الصفراء” ضد الوضع الضريبي المتفاقم، يلمس حالة مختلفة عما عرفناه ونعرفه عن طبيعة الخطاب الاحتجاجي في بلداننا وكيفية استقباله من طرف السلطات ووسائل الإعلام.

بدأت الفتاة رسالتها بقولها “سيدي الرئيس.. لقد صرت أخاف أن أكبر في فرنسا، وينتابني قلق حول مستقبل حياتي.. كل شيء يزداد غلاء فما الذي بقي؟” وختمت الفتاة بقولها “لمست غضبا آخر في عيون أصحاب السترات الصفراء غير مجرد الاحتجاج على أسعار الوقود.. إنه أمر آخر”.

مخطئ من لا يرى فرقا بين عبارتي “ارحل” التي رُفعت في تونس والقاهرة وليبيا أثناء تلك الانتفاضات الشعبية، وبين “ارحل” التي رُفعت في باريس ضد إيمانويل ماكرون، وحتى لو اضطر الرئيس الفرنسي إلى الاستقالة تحت وطأة الضغوط رغم تناصف الآراء حول الاحتجاجات فلن تتغير الأمور بصفة جذرية، ذلك أن البلدان الأوروبية تحكمها دولة المؤسسات وليس أمزجة الحكام التي تحركها المصالح الشخصية.

واهمة هي القراءات التي تحاول المقاربة بين الحركات الاحتجاجية المتنامية في أوروبا، وبين الانتفاضات الشعبية في دول العالم الثالث، والتي أدت إلى سقوط أنظمة كما هو الحال في ما بات يعرف بدول “الربيع العربي” الذي وصلت ارتداداته إلى دول كثيرة بدرجات متفاوتة، تحددها وتتحكم فيها عوامل وأسباب كثيرة متعلقة بطبيعة النظام السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى بنية المجتمع الطبقية ومستوى وعي وثقافة فئاته المتبنية لأي حراك شعبي. الأنظمة الديمقراطية في أوروبا ليست وليدة البارحة، ولم يأت قادتها وزعماؤها على ظهور الدبابات، ولا هم يحكمون شعوبهم بالحديد والنار كما هو الحال في دول العالم الثالث، بل هي أنظمة راسخة ومتجذرة في الثقافة الديمقراطية والحقوقية، كما أنها تحكم باسم الدولة ومؤسساتها منذ عقود من الزمن، وليس باسم أشخاص وولاءات مبنية على منظومات الفساد والاستبداد. صحيح أن الطبقة الوسطى في أوروبا قد تآكلت وضعفت لحساب التوحش الرأسمالي الذي عبث بالهرم الاجتماعي، لكن الدول الغربية قادرة باقتصادياتها القوية وشفافية سياساتها الداخلية على إيجاد الحلول الناجعة واجتراح المعالجات الضريبية دون إسفاف، الأمر الذي يجنبها المصائر الكارثية التي وقعت فيها الأنظمة الهشة التي تسارع إلى عصا القمع بدل الإنصات والتفاوض مع المحتجين.

الأنظمة الليبرالية أوجدت آليات معالجة ذاتية لكل مشاكلها، ولم تترك الفرصة للارتجالات العشوائية أو التدخلات الخارجية والخارجة عن إرادتها.

وبالعودة إلى حركة السترات الصفراء في فرنسا التي يرى فيها بعض ضعاف النظرة تهديدا حقيقيا، فإن مشكل هذه الحركة أنها تدّعي أنها تمثل الطبقة الوسطى الصغيرة الفرنسية، لكن أنصارها عندما ينزلون إلى الشارع لقطع الطرقات أمام مستعملي السيارات يجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع أفراد من الطبقة التي يدافعون عن مطالبها! كما أن عناصرها أنفسهم باتوا لا يطيقون التظاهر أياماً، وبالأحرى أسابيع، بسبب الاقتطاعات من أجورهم الشهرية، أو تراجع مداخيلهم كلما تغيبوا عن أعمالهم.

ويرى محللون أن من غير المستبعد أن الحركة ستبقى مجرد صيحة غضب في شوارع فرنسا. ومثل كل الحركات الاجتماعية غير المؤطرة، وغير المسيسة، والتي تفتقد إلى قادة وزعماء، فإن مصير حركة السترات الصفراء الذوبان مع مرور الوقت، وهذا ما تراهن عليه الحكومة، فالحركات الاجتماعية الأفقية، وذات التنظيم الذاتي، بقدر ما تكون مفاجئة وعارمة مثل “تسونامي”، إلا أنها سرعان ما تخفت وتختفي، وأحياناً كثيرة من دون أن تترك وراءها أي آثار، لأنه نادرا ما تُتَرجم مطالب هذه الحركات إلى برامج يمكن التعبير عنها بأصوات انتخابية.

من الصعب معرفة كيف ستتطور هذه الحركة، في وجود أكثر من خطر يتهدّد استمرارها، وفي مقدمة هذه المخاطر المطالب الشعبوية والعنصرية التي باتت تخترق صفوفها. ومن المرجح أنها مجرد حالة غضب صادرة عن طبقة وسطى صغيرة، تشعر بالتخلي عنها، بعد أن حولتها التحولات الاقتصادية الكبيرة في العالم إلى الخاسر الأكبر، وبدأت ترى في نفسها مجرد طبقة “عبيد جدد” في خدمة الطبقات الثرية والمرفّهة.

12