الحرفيون يتفوقون على أصحاب المهن الأخرى صحيا

الاكتئاب والشيزوفرينيا من نصيب الصحافيين والأدباء والفنانين.
السبت 2019/10/19
الكتاب والصحافيون من الشهرة إلى العيادات النفسية

أصحاب المهن اليدوية من الحرفيين بمنأى عن الاكتئاب والأمراض مقارنة بالعاملين في مجالات تتطلب جهودا ذهنية، فأكثر المعرّضين للاضطرابات النفسية والانفصام هم الصحافيون والأدباء والفنانون والموسيقيون والرسامون، لاسيما من الذين لمعت أسماؤهم في سماء الشهرة والمجد.

 كشف تقرير نشر في مجلة “ساينس” أن الضغط النفسي الناتج عن العمل في بعض المهن يُفاقم أعراض الاضطراب النفسي المعروف باسم مرض الاكتئاب الهوسي، ومرض انفصام الشخصية “الشيزوفرينيا”، بالإضافة إلى تدهور وظائف الدماغ لدى بعض المرضى.

وقال التقرير إن أكثر من يتعرض لتلك الاضطرابات النفسية هم أصحاب المهن الذهنية كالصحافيين والأدباء والفنانين والموسيقيين والرسامين، والمشتغلون في بعض المهن الحرفية وغيرهم.

وأشار يسري عبدالله خليل، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، إلى نصيحة أعلنها عدد كبير من الأطباء النفسيين في إنكلترا، حيث يقولون “ليعد الإنسان إلى ممارسة المهنة اليدوية، فهذا أفضل للمحافظة على صحته النفسية”.

وأوضح خليل أن هؤلاء الأطباء قاموا بإجراء مجموعة من الأبحاث للتعرف على العلاقة بين المهنة والأمراض التي تصيب الفرد، ووجدوا أن الذين يعملون بالمهن اليدوية يتمتعون بالاستقرار النفسي أكثر من الذين يمارسون المهن التعليمية، كما أنهم أقل عرضة للإصابة بالأمراض النفسية.

هناك علاقة بين الأمراض النفسية ونوعية المهن التي يعمل بها الفرد، فأصحاب المهن الذهنية يتعرضون للأمراض النفسية أكثر ممن يعملون بالمهن اليدوية؛ وهذه الأمراض ترتبط أساساً باضطرابات التفكير أكثر من ارتباطها باضطراب السلوك، مثل أمراض الفصام العقلي وأمراض القلق النفسي والوساوس القهرية النفسية، والمخاوف النفسية وكذلك الأمراض الجسمية التي ترتبط بالأسباب النفسية.

أصحاب المهن اليدوية والحرف هم غالبا أكثر طمأنينة واستقرارا وهدوءا من الناحية النفسية

ولهذا فإن أن أصحاب المهن الذهنية كثيرا ما يشكون من عدم القدرة على التركيز، وعدم القدرة على الاستيعاب والنسيان والتوتر النفسي الداخلي والمخاوف من اللاشيء، أيضا قد يصاب أصحاب المهن الذهنية بالأمراض الجسمية المصحوبة بالتوتر العصبي مثل الصداع وخفقان القلب، وآلام العضلات وتقلصاتها، واضطرابات الجهاز الهضمي وأهمها القولون العصبي وآلام المعدة.

أما أصحاب المهن اليدوية فهم غالبا أكثر طمأنينة واستقرارا وهدوءا من الناحية النفسية ولكن أحيانا يتعرضون إلى اضطرابات نفسية مثل الانحرافات الشخصية وانحرافات السلوك، وكذلك الأعراض العضوية النفسية الناتجة عن الإدمان.

وأفاد أيمن منير عبدالوهاب، استشاري الأمراض الباطنية والقلب، بقوله “هناك أمراض مهنية يتعرض لها أشخاص يمارسون مهنة معينة، فالعاملون المعرّضون للمواد الكيميائية وعمال المناجم يتعرضون لأمراض صدرية وسرطانية واعتلالات في الكبد والكلية والدم وغيرها”.

وأضاف “نجد كذلك أن العاملين في صناعة الكاوتشوك يتعرضون للكثير من المواد الكيميائية السامة والمواد المسببة للسرطان المهني، كما أن العاملين في مجال البنوك ليسوا بعيدين عن الإصابة بالأمراض بل معرضون للإصابة بقصور الشريان التاجي بسبب التدخين وعدم ممارسة الرياضة البدنية، وارتفاع نسبة الدهون في الطعام وارتفاع ضغط الدم”.

وكانت الدراسات أكدت أن مرض الفصام ينتشر بنسبة أكبر في المهن ذات المردود المالي الأقل، ولا يعني ذلك أن الفقر يسبب الفصام، بل لأن المرض نفسه يؤدي إلى تدهور الشخصية وطموحها وقدراتها بينما ينتشر الهوس الاكتئابي الدوري بين الطبقات الاجتماعية العليا كرجال الأعمال والتجار وغيرهم، ويرجع ذلك إلى زيادة النشاط والتفاؤل والطموح وروح المغامرة والثقة بالنفس.

الشهرة والمال عبئان نفسيان على الفنان، فهو دائما في حالة يقظة نفسية كي يحافظ على استمرارية هذه النجومية
الشهرة والمال عبئان نفسيان على الفنان، فهو دائما في حالة يقظة نفسية كي يحافظ على استمرارية هذه النجومية

وتبين أنه في المهن الأدبية الإبداعية تزداد نسبة الاضطرابات الاكتئابية خاصة بين كتاب الرواية والقصة والمسرح وكتاب النثر والشعراء والصحافيين بينما تتقارب نسبة النوبات الاكتئابية الشديدة لدى العلماء والسياسيين والمؤلفين الموسيقيين والرسامين.

ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة العمل الإبداعي الأدبي من حيث الحساسية الخاصة التي يمتلكها الكاتب لأشكال المعاناة المختلفة وتوحده مع شخصيات أعماله وأيضا تعرضه لأنواع الإحباط والاكتئاب، ويزداد الاضطراب الهوسي واضطراب المزاج لدى العاملين في المهن الصحافية والإعلامية، وينتشر الاكتئاب لدى ربات البيوت مقارنة مع النساء العاملات في مهن وأعمال أخرى.

وقدّم العالم المصري أحمد عكاشة أمثلة على أدباء وفنانين مشهورين وحاصلين على جوائز نوبل ومع ذلك انتحروا، “على سبيل المثال أرنست هيمنغواي رجل ناجح شهير طبقت شهرته الآفاق، وحصل على جائزة نوبل في الأدب، نجحت قصصه واشتهرت وتحول الكثير منها إلى أفلام سينمائية، كان يملك المال والقوة والجاه، والشهرة والصحة، ومع ذلك اسودت الدنيا أمام عينيه وأحس بالاكتئاب يملأ حياته وأخيرا أطلق الرصاص على رأسه”.

وتابع “والممثل الشهير جورج ساندروز حصل على جائزة الأوسكار، وكان يتمتع أيضا بالمال والقوة والجاه والشهرة وحب الجماهير واشترى جزيرة خاصة، وعاش الحياة التي يحلم بها الكثيرون، وفي وسط هذه المتع أطلق الرصاص على رأسه بعد أن قال ‘لقد سئمت الحياة'”.

وأوضح عكاشة “لقد أصيب هيمنغواي وساندروز بمرض واحد وهو الاكتئاب، وكان كل منهما ضحية لهذا المرض الذي يصيب الأذكياء أكثر من متوسطي الذكاء، فهو يكثر بين المهنيين وينتشر بنسبة أكبر بين المثقفين. أيضا نجد أن الرسام العالمي الشهير فان غوخ انتهت حياته في أحد مستشفيات الأمراض النفسية، حيث أطلق الرصاص على بطنه ومات، لقد كان يعاني من نوبات تهيج شديد، يسمع أثناءها بعض الأصوات بل ويرى الخيالات، وكان يعتقد أن الكل يراقب تحركاته وسكناته، لقد أصيب بأحد أمراض الفصام”.

الشهرة والمجد والمال قد تكون عبئا نفسيا وليست بالضرورة تحقيقا لسعادة وأمانا واستقرارا نفسيا، إذ تصبح هذه السعادة والبريق واللمعان قيودا نفسية، فالفنان دائما في حالة يقظة نفسية كي يحافظ على استمرارية هذا البريق والنجومية ومستواه العلمي والأدبي والفني، وقد يبحث عن لحظة هدوء ومعايشة بينه وبين ذاته فلا يجد إلا الفراغ والضياع اللذين يؤديان إلى التمزق فالاكتئاب فالانتحار.

النجومية والفن وتسليط الأضواء على الفنان تقيد حريته وتتحكّم في حركته باستمرار، فهو في إحساس دائم بفرض السيطرة الخارجية عليه، فحركاته وسكناته مرصودة من الآخرين، وهذا يضغط على أعصابه ويزيد من توتره ويخلق شعورا بالاكتئاب.

17