"الحدائق المسيجة" قصائد العبور من العالم الواقعي إلى غرائب بيكت

الكتابة في مجموعة “الحدائق المسيجة” للشاعر التونسي سفيان رجب، تجوال في الحديقة الأرضية وسياحة بين حكايات تُستدعى لتشوش أو تخلق من مخيال يبدو متشربا لنسق العالم القديم ولكنه يخالفه من حيثُ يحاكيه. إذ سرعان ما يرتد عليه ليؤسس لرؤية مغايرة تماما، مثلما تخرج الذاتُ النيتشوية نقيضة للمسيح من صميم لغة إنجيلية.
وتندرج المجموعة ضمن مدونة شعرية تونسية معاصرة لها حضورها وأهميتها ضمن ما يكتب اليوم في العالم العربي من الشعر الحديث، وهي عبارة عن مجموعة شعرية من قصائد النثر صدرت عن بيت الشعر التونسي.
والحدائق تكون مسيجة بطبعها في لسان العرب. فلم إذن يَسِمُها الشاعر بما تكفله لها دلالتها المعجمية أصلا؟ هل هو تشديد على دلالة التسييج وفضاء الانغلاق أم هو يعرضها لنا مضاعفة كي تكون تجربة المجموعة محاولة لهدم السياجات على اختلاف مستوياتها شعريا؟
السرد الأليغوري
نتخذ من قصيدة “أرض الكتب” مثالا على هذا السرد الذي تنتظم وفقه المجموعة بكثافة. فنرى مثلا، إن أحصينا قليلا في هذا النص الموجز، ثلاثين فعلا وثلاثة مصادر وشخصيّات مختلفة أهمها الأنا المتكلمة والتي يخلق معها القارئ صلات وطيدة ومن ثم الشيخ والتوبة والله. بالإضافة إلى إشارات سردية أخرى مطردة لا تجعل أمام القارئ أي شك في أنه يقرأ حكاية ولكنها حكاية شعرية.
ومن الطريف أن شخصية الله لم تكن من الفواعل، بل هي في مقام المفعولية المحضة، ذكرت في بداية النص، واقتصر حضورها في القصيدة على أن يكون دلاليا.
الشاعر سفيان رجب في مجموعته يتخذ القناع نفسه لكنه يخترقه بقوة مغايرة فيغير معنى الظاهرة برمتها
حكايات سفيان رجب تذهب إلى البنى القديمة جمالية ورؤيوية، تتلبسها مثل الجن، فتخترقها. وإذا بها لم تعد هي في جوهرها حتى وإن حافظت على شَبَهِ الملامح. فهذا الذي يختص في نص يشبه في بنيته بعض الأحاديث المنسوبة إلى النبي أو تلك المطّردة في القصص الديني، ليس النص القديم وإنما الجن الذي تلبسه. وعلى هذا النحو يتوصل إلى قلب الأشياء وإعادة خلقها على الصورة التي تنبذها، يؤول بها إلى مسخها، حيثُ تستقر رؤية الشاعر الحديثة للعالم.
يقول الشاعر سفيان رجب “وفي حياتي فتحت كتبا صفراء تبللها حيرتي/ وأغلقت كتبا صفراء تحرقها معرفتي/ ولم يأت عابر السبيل الذي انتظرته عمرا كاملا / والحقيقة أنني كنت أجتهد/ في إخصاب مخيلتي بالزيف والكذب/ حتى لا يأتي/ ثم إنني نسيت كلام شيخي/ وضيعت علاماته بين أقمار تأفل/ وأوراق تذبل، وكتب تغلق وتفتح”.
يطّرد السرد الأليغوري في هذه المجموعة، ولكنه لا يُدعى في سياقه القروسطي هادئا مطمئنا للبنى التي تشكل فيها حينئذ. ولعل الشاعر قد عمق هذه الدلالة باستدعائه المكثف لحكايات الكتاب المقدس، أحد أبرز النصوص في المخيال الإنساني المتأسسة في بنيتها على الحكي المثلي، والتي يحضر بعضها في النّص القرآني وتراثه التفسيري المتصل بالعهد القديم خاصة.
ولا يتوقف هذا العبث لدى الشّاعر بحكايات الكتاب المقدس بل يشمل جميع ما تم تقديسه أو تحنيط معناه من حكايات أسست مخيالا لطفولة سندريلا وباتمان وعلي بابا… أو تلك التي نشأت في سياق مؤسسات المعنى بشكل عام.
|
سروال بكيت
في نص “القصص التي قرأناها” يستتبع سفيان رجب قصة علي بابا. يقول ”بعد سنوات من العيش الكريم، ساءت أحوال علي بابا، ونفدت صناديقه التي كانت مملوءة ذهبا وياقوتا، لذلك فكر في العودة إلى مغارة اللصوص راكبا حماره الهزيل تتبعه نواياه البيضاء، التي عرفناه بها أيام طفولتنا. لكنّ مغارتنا نُهبتْ كنوزها وهربت إلى الروايات الغربية الحديثة وأفلام الويسترن الأميركية، واللصوص اعتُقلوا في سجون غوانتانامو وكلمة السر نشرت بين أجهزة “افْ بي آيْ” وشبكات الموساد. ولم يجد علي بابا شيئا يحمله غير دموعه وأحزانه”.
وجاءت لفظة العالم، التي رددها الشاعر التونسي كثيرا في مجموعته، متصلة بسياق فكري قديم يسم الخالق بالمثالية، استنادا إلى وسم المخلوقات، وهي، في اجتماعها، العالم، بالمثالية والتنظم والترتب. ولمعنى كلمة العالم في الألسن اللاتينيّة هذه الدلالة. فالعالم هو المحكم المثالي. ولهذا يعتبر جميلا. هذه المجموعة تذهب بنا إلى صميم العصور تلك. تهدمها من الداخل بنظر نقدي شعري في سياق قصيدة نثر تتأسس في رؤيتها على نقيض ما سبق وتنخرط في صميم فلسفة الحداثة.
في مسرحيته “نهاية اللعبة”، يقيم صموئيل بكيت حوارا بين رجل من النبلاء وخياط إنكليزي يدعى غودمان. وإذ يعاتب النبيل الخياط لتأخره في خلقِ منجزه الفني (السروال) متحججا بأنّ الله خلق العالم على نحو مثالي في ستة أيام، يجيبه المبدع الفقير “ولكن يا سيدي… يا سيدي… انظر (بازدراء واحتقار) إلى العالم. وانظر (بفخر وكبرياء) إلى سروالي”.
حوّل بكيت هذا الحوار القصير إلى مرجع رمزي حين كتب مقالة في فن الرسم الحديث، عنونها بـ “العالم والسّروال”. وقد نجح سفيان رجب في “الحدائق المسيّجة” في العبور بنا شعرا من العالم إلى سروال بكيت ومن التّصور اليقيني الإيماني للأشياء إلى العين المحرقة بالسؤال والشك، ومن قصيدة الله إلى قصيدة الإنسان دون أن تكون الثانية موضع هجاء ونقصان بل إنها تتحول إلى الأثر المحتفى به. يقول “القصص مثلنا تماما / تتبدل مع الظروف والأيام/ وكل قارئ يقول غير ذلك/ فهو حتما لن يفلح في حياته/ حتى في قراءة كف ميت”.