الحج.. قراءة في طرق الرحلة والراحلة من "الناقة" إلى "البوينغ"

تونس - الناظر اليوم إلى جداول الرحلات المنطلقة إلى البقاع المقدسة من كافة عواصم العالم لنقل ضيوف الرحمان والعدد الكبير من الطائرات المتقاطرة على مطاري جدّة والمدينة المنورة، لا يكاد يفكر لحظة أنّ ذات الرحلة كانت تشكّل خطرا كبيرا لقوافل الحج سواء من حيث الأمان البدني أو المادي.
الرحلة الجوية التي لا تتجاوز اليوم الخمس ساعات كمعدّل عامّ، كانت في عقود خلت تتجاوز الأسابيع والأشهر وتحمل في طياتها تجشما للمتاعب والكوارث والأهوال قد تحول دون وصول الحاج إلى البقاع المقدسة.
تتحدّث المصادر التاريخية عن أنّ رحلة الحجّ عادة ما تكون برية أو بحرية، فبالنسبة إلى البحر يكون السفر انطلاقا من البحر الأحمر الرابط بين مصر والحجاز سابقا، المملكة العربية السعودية حاليا، وذلك عقب قيام أفواج الحجيج برحلة برية وصولا إلى “المحروسة".
أما الوفادة البرية إلى مكة المكرمة فتتم عبر 4 طرق برية ذكرها أحمد بن عمر الزيلعي، أستاذ التاريخ الإسلامي، تحدد انطلاقا من العواصم، مثل بغداد عاصمة الخلافة العباسية، أو دمشق عاصمة الخلافة الأموية، أو اليمن، أو القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية.
قوافل الحج كانت تتأهب للسير نحو البقاع المقدسة أياما قليلة بعد الاحتفال بعيد الفطر المبارك
والطريق الشامي يمر بعدد من المحطات حتى المدينة المنورة، والطريق اليماني له 3 طرق فرعية، طريق ساحلي يخرج من عدن، وطريق الجادة السلطانية ويمر بحلي ثم يلتقي بالطريق الساحلي، والطريق الثالث من صنعاء ويمر بصعدة ونجران والطائف ثم مكة.
وتشير المصادر التاريخية ذاتها إلى أنّ قوافل الحج تتأهب للمسير نحو البقاع المقدسة أياما قليلة بعد الاحتفال بعيد الفطر المبارك، ذلك أنّ الرحلة كثيرا ما تستغرق أسابيع طويلة سيما وأنّ جموع الحجيج تستفيد من الراحلة، الناقة خاصة، فقط لحمل الأمتعة فيما يصاحبها الحجاج سيرا على الأقدام.
وتضيف أنّ القليل من الحجيج ميسوري الحال، يركبون الناقة وهو أمر يتفاداه الحجيج لأمرين اثنين، الأوّل لقلة الموارد المالية حيث أنّ الحاج يترك لأهله ما يكفيهم سؤال الآخرين طيلة أشهر الحج الثلاثة، وأيضا لأنّ القافلة "المرفّهة" بمقاييس السياق السابق تعني استقطاب السوقة وقطاع الطرق ضدّها، وهو ما كانت القوافل تخشى حصوله.
وتؤكد المصادر التوثيقية في هذا الإطار أنّ القافلة كانت تبرم اتفاقات للعبور بين القبائل ولحمايتها أيضا من قطاع الطرق، إذ تكشف أنّ قوافل الحجّ من قبيلة معينة مخيرة بين أمرين اثنين؛ فإمّا أن تدفع إتاوات العبور والحماية ضمن حدود سيادة القبيلة، وإما أن يكون هناك اتفاق شامل بين القبائل يضمن التعامل بالحسنى بين أبنائها سيما عندما يكونون من حجاج بيت الله.
وجدير بالذكر أنّ الكثير من قوافل الحجيج تعرضت للنهب والسرقة والقتل حتّى داخل حدود الحرم المكي أو عند المشاعر المقدسة في “مشعر منى” بالتحديد، ذلك أنّ الحاج لم يكن في مأمن من السرقة وحتّى القتل في البعض من الأحيان.
الوداع الحميمي للحجيج والاستقبال الاحتفائي، يعودان إلى الكينونة البكر لرحلة الحج بما هي رحلة متاعب ومخاطر
بل إنّ الحفريات السوسيولوجيةتشير في هذا السياق إلى أنّ الوداع الحميمي الطافح بالدموع والبكاء للحجيج قبل الرحلة والاستقبال الاحتفائي بعدها، يعودان إلى الكينونة البكر لرحلة الحج بما هي رحلة متاعب ومشقة ومخاطر جسدية ومالية.
وهي مخاطر استمرت حتّى مع استخدام السيارة والعربة للوصول برا إلى البقاع المقدسة، حيث أنّ الطرق الصحراوية مليئة بقطاع الطرق، كما أنّ خطر الضياع والتيه وسط صحراء صخرية حجازية قائم إلى يوم الناس هذا حتّى وإن قلت فرضيات الهلاك.
الناظر اليوم إلى مسالك التيسير والتسهيل سيما مع تطور تكنولوجيا المعلومات وتقنيات الملاحة الجوية وتحول العالم إلى قرية صغيرة يدرك أنّ طرق الوصول إلى البقاع المقدسة باتت الحلقة الأسهل والأكثر أمانا بعد أن كانت الأكثر صعوبة وخطورة.
وتقريبا يعد المواطن البوسني سناد هادزيتزش آخر حاج أم بيت الله الحرام سيرا على الأقدام، حيث قطع أكثر من 6000 كلم مشيا على القدمين في فترة زمنية ناهزت الخمسة أشهر خلال عام 2012.
ذلك أن مفهوم الزمن تغير بين السياقين، القديم الكلاسيكي والراهن المتطور تقنيا على الأقل، إذ من الواضح أن رحلة الحج كانت تشكل الجزء الأساسي من العام، إن لم تكن كله، ولهذا تعلق التجارة وتقفل الدكاكين وتؤمن الودائع لدى أمناء الحي والقبيلة، ويخطب للشاب والشابة، وتُتْرك مؤونة كاملة من القوت للعائلة حتى لا تجوع فتصير عالة بين الناس والأقربين.
في حين أن الزمن التعبدي في الحج اليوم استحال جزءا من منظومة القرية الصغيرة، وفق مارشال ماكلوهان، حيث تختزل الرحلة في أقل من شهر زمنيا، وتتكفل شبكات التواصل الاجتماعي بجسر الهوة وكسر المسافة بين الحاج وأهله مكانيا.
أصبح الحج اليوم في صلب معادلة قوامها “القرب والتقريب”، فلئن نجحت وسائل الإعلام اليوم في “عولمة” الحج وتقريب البعيدين والقاصرين عن للوصول إلى البقاع المقدسة، فإن القرب الافتراضي بين الحاج وذويه صار حاليا متاحا بكبسة زر واحدة.