الحج في الموروث الشعبي المصري رحلة راسخة في ذاكرة الرسوم والأغاني

الحج ليس فريضة دينية فحسب لدى المسلمين، فبه ترتبط العديد من العادات والتقاليد التي باتت ثقافة راسخة على مر السنين، ولكن الأمر مختلف قليلا في جنوب مصر، إذ يمثل الاحتفاء بالحج طقوسا فنية متكاملة، منها الأغاني ومنها الرسومات، وبعض الكتب تفسر هذه الظواهر التي تمتد جذورها إلى قرون ما قبل الإسلام، وتحورت لتناسب فريضة الحج.
محمد أيسم وهبة فؤاد
القاهرة- يحظى أداء فريضة الحج بمكانة خاصة في قلوب المسلمين المشتاقين إلى زيارة المسجد الحرام في مكة، لكن أهل صعيد مصر يضيفون مذاقا فريدا للرحلة بأكملها فيحتفلون بحجيجهم بمراسم خاصة منذ عشرات السنين.
يودع الأقارب والجيران الحجيج بإنشاد أغان وأهازيج تصاحبها أنغام الموسيقى الشعبية المتوارثة من جيل إلى جيل احتفاء بهذه الفريضة التي يوصف السفر لأدائها بأنه رحلة العمر.
أغاني من التراث
الرسومات الشعبية احتفاء بالحجيج تكون بألوان ساخنة كالأصفر والأحمر والأخضر إلى جانب الأسود والأبيض لإبراز النقاء والطهر
يقول أحمد نجيب (38 عاما) الذي يسافر لأداء فريضة الحج هذا العام من الأقصر في جنوب مصر “الحمد لله هنا نقوم بمراسم للحجاج، نزورهم، ونقيم حفلا وعشاء وندعو أحبابنا وأهلنا، ونقعد مع بعض على العشاء، ونأتي بمداح لأداء الأذكار، هذه عاداتنا وتقاليدنا.”
وتمثل تلك الأغاني مزيجا فريدا من التعبير الديني والعاطفة الشعبية، وتعكس مشاعر الفخر والحنين والخشوع، وتشكل أيضا جزءا أصيلا من النسيج الاجتماعي والديني في مصر، لاسيما في المناطق الريفية والصعيد.
وجاء في كتاب الأكاديمي المصري الراحل محمد رجب النجار المتخصص في التراث الشعبي “فولكلور الحج: الأغنية الشعبية نموذجا” أن أغاني الفولكلور “تشكل تصورا شعبيا عن مشهد من مشاهد هذه الرحلة المقدسة، أو مرحلة من مراحلها البارزة، من البداية حتى النهاية”، ويصف النجار هذه المراسم بأنها “زفة الحاج.”
ويتابع أن الأغاني الشعبية المرتبطة بالحج “مثل أي أغنية شعبية ذات سمات أو خصائص فنية محدودة، منها أنها غير معروفة المؤلف ومجهولة الملحن وتعتمد الأداء الشفاهي الحي وحده سبيلا إلى الانتشار والشيوع وتحقيق المتعة.”
ويضيف أن الأغاني في أساسها ونشأتها “شكل غنائي نسوي الأصل، تؤديه وتتلقاه النساء فقط، وهو ما يفسر لنا: لماذا كانت معظم أغاني الحج موجهة للنساء وتحمل معظمها ضمير المخاطب أو الغائب المؤنث.”
لكنه يضيف أن باختلاف المؤدي، رجلا كان أو امرأة، فإن “اللحن الشعبي أو الإيقاع واحد في الحالتين، باعتباره لحنا شعبيا موروثا.”
لكن ذلك التقليد تغير بعض الشيء. يقول نجيب إنهم في الوقت الحالي تزداد استعانتهم بالسماعات الضخمة التي تنبعث منها الأغاني بدلا من المنشدين والفرق الموسيقية التقليدية. ويضيف “نأخذ الدي.جيه ونذهب به إلى المطار ونقضي يومنا هناك” متابعا بلهجته المميزة “ربنا يوعد الجميع بالزيارة يعني إن شاء الله.”
ومن بين الأغاني التي تُنشد في مثل هذه المناسبات، أغنية “رايحة فين يا حاجة” و”يا رايحين للنبي الغالي” و”مبروك يا حج هنيالك (هنيئا لك).”
تقليد قديم متجدد
لا يقتصر تناول الحج في الفولكلور على الغناء فقط، وإنما يمتد ليشمل نوعا فنيا آخر هو الرسم على الجدران أو ما يعرف بفن الجداريات.
تقول الدكتورة صفية القباني العميدة السابقة لكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان إن من أبرز مظاهر مراسم الحج الاجتماعية والفنية “الرسومات الجدارية التي تزين واجهات منازل الحجاج، والتي تمثل شهادة بصرية على أداء هذه الشعيرة المقدسة. هذه الجداريات ليست مجرد زخارف، بل هي سجل حي يعكس تصورات المجتمع المصري للحج كرحلة روحية واجتماعية تستحق التوثيق وتعكس مظاهر الفرحة والبهجة.”
ويؤيد نجيب ذلك قائلا “حين تعود تجد أهلك راسمين على الحائط، ومجددين فيه” لافتا إلى أن كل حاج يعود ليجد كتابات ورسوما على جدار منزله.
ويتحدث الخطاط والرسام عبدالمنعم رياض (52 عاما) من الأقصر عن مفردات جداريات الحج مبرزا أن العناصر الأساسية فيها هي رسمة الكعبة والطائرة وأحيانا ترسم الباخرة (الكثيرون يسافرون عن طريق البحر)، كما يلفت إلى أن الجداريات تحتوي أيضا على آيات من القرآن عن الحج وأحاديث نبوية عن هذه الفريضة. ويمارس رياض هذه المهنة منذ عام 1992.
ويتفق الرأي الأكاديمي مجددا مع الرأي الشعبي، فتذكر الدكتورة صفية “رسم الكعبة والجمل والحاج ورموز كالكف والعين ورموز كثيرة كل له دلالته وتتميز الرسومات بالألوان الساخنة الأصفر والأحمر والأخضر، إلى جانب اللون الأسود والأبيض تعكس النقاء والطهر ولون الكعبة بسوادها والألوان الساخنة للمحتفلين وغيرهم بلون الشمس القوية وألوان مصر الساطعة”.
وتضيف أن تقليد تزيين المنازل المصرية برسومات الحج يعود “إلى أن المصريين القدماء كانوا يعتادون توثيق رحلاتهم وأنشطتهم اليومية على جدران المعابد والمسلات. مع دخول الإسلام إلى مصر، تحول هذا التقليد ليوثق رحلة الحج المقدسة بدلا من رحلات الصيد.”
لكنها تذكر أن هناك اختلافات بين المدن والأقاليم في ما يخص ذلك التقليد الشعبي، قائلة “ما زالت المحافظات مثل أسوان والأقصر وقنا تحافظ على هذا التقليد بحيوية. ومع ذلك، فإن الهجرة من الريف إلى المدن نقلت هذا الفن إلى بعض الأحياء الشعبية في القاهرة والإسكندرية، وإن كان ذلك بصورة أقل وضوحا.”