الحبيب بيده الباحث عن صورة الإنسان الكامل

أحيانا يرعى الرسام أفكاره بحيث يخضع صوره لفكرة ما، هي تلك الفكرة التي قضى زمنا طويلا في إعادة تدويرها والتعرف عليها من كل الجهات ومن ثم وضعها في صيغتها الشخصية.
كان التونسي الحبيب بيده وهو رسام حداثوي قد تعمق في دراسة الخط العربي لكن من جهة علاقته بصورة الإنسان. كتابه الذي يضم خلاصة نظرياته عن الفن كان بعنوان "صورة الإنسان الكامل في الخط العربي". وهو في ذلك إنما يوسّع الصلة بين الخط الذي هو حاضنة للنصوص المقدسة وبين الإنسان الذي يتحقق كماله حين يكون صانعا ومشاهدا في الوقت نفسه.
وإذا ما كان التجريد الهندسي هو الأقرب إلى "الكوفي المربع" فإن التجريد الغنائي يستلهم الكثير من تجلياته من باقي أنواع الخطوط والزخارف النباتية. تلك حقيقة وقف أمامها بيده كثيرا وسعى أن يخلص لها في فنه، لكن برؤية حديثة متمردة غير مكترث بنظريات استلهام التراث جماليا من خلال العودة إلى مفرداته وإزاحة الغبار عنها كما فعل آخرون.
عام 2020 أقام بيده معرضا استعاديا في قصر خيرالدين بالعاصمة تونس. في ذلك المعرض تعرف المتلقون على المسار الشكلي المدعوم بالتحول الفكري الذي اتخذته تجربة بيده وهو يمزج بين الاتجاهين في بناء تنبعث مفرداته من الداخل ولا تُلقى على السطح من الخارج. وليس هناك ما يُقلق التجربة التي تستند إلى مرجعية فنية إذا ما قلت إن الرسام قد بنى جزءا من المساحات اللونية على النظر إلى الطبيعة بطريقة تأملية.
عالمان متباعدان
لقد حاكى بيده الطبيعة من غير أن يستجيب كليا لغواية أشكالها. فعل ما تفعله ولم يتخل عن مرجعيته التي لم يخنها حين تقدم بها وهو يحاول أن ينتقل بها من حالة السكون إلى حالة الحركة.
أنصت إلى أصوات الطبيعة مثلما فعل الخطاطون والمزخرفون والمزوقون العرب المسلمون القدامى. لذلك فإن أشكاله لا يمكن النظر إليها بالعين وحدها فهي لن تُرى كاملة.
ما تفرضه رسوم بيده على مشاهدها أن يضع حواسه كلها في خدمة عملية التلقي. وهي عملية تبدو لأول وهلة معقدة، غير أن ما يسيرها أن المتلقي يشعر بمتعة النظر من غير أن يفسر ما الذي يحدث له وهو يلاحق مظاهر سعادته.
◙ كتابه "صورة الإنسان الكامل في الخط العربي" يوسع الصلة بين الخط الذي هو حاضنة للنصوص المقدسة، وبين الإنسان الذي يتحقق كماله حين يكون صانعا ومشاهدا في الوقت نفسه
رسوم بيده لا ترهق المتلقي بالأسئلة ولا تريده أن يقف خارج سياق متعته البصرية. غير أنها في الوقت نفسه تطرح أسئلة كثيرة في ما يتعلق بحرفة الرسم وصلتها بالحياة في جانبها الفكري.
ولد في جزيرة قرقنة عام 1953. درس الفن في مدرسة الفنون الجميلة بتونس وتخرج فيها عام 1977. عام 1980 ناقش أطروحة الدكتوراه وكان موضوعها فن وخط وزخرفة المخطوط القرآني من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر وذلك في المكتبة الوطنية بتونس.
في عام 1993 نال شهادة دكتوراه دولة من جامعة السوربون بباريس عن أطروحته في مفهوم تقليد الطبيعة في الفن العربي الإسلامي. أقام أول معرض شخصي له في تونس عام 1980. كما أصدر كتابا بعنوان "صورة الإنسان الكامل في الخط العربي"، وعمل في تدريس الفن وأشرف على الكثير من بحوث الدكتوراه.
مسيرته المهنية وضعته في موقع مهيب بالنسبة إلى طلابه غير أن مسيرته الفنية وهي الأهم وهبته مكانة مهمة في المشهد الفني التونسي بعد جيل رواد الحداثة الفنية رفيق الكامل وعبدالرزاق الساحلي ونجيب بلخوجة.
الطبيعة كما لم نرها من قبل
مثّل ظهور بيده ومعه عدد من الفنانين بداية لطور جديد من أطوار الحداثة في تونس. تلك بداية لعهد جديد لم يكن متوترا كالعهد الذي سبقه بسبب ضعف هيمنة جماعة مدرسة تونس ولم يكن هناك صراع ظاهر بين جيلين.
غير أن ذلك لا يعني أن فن بيده على سبيل المثال لم يقع ضمن دائرة سوء الفهم. فالفنان الذي سعى إلى ألاّ تعتبر تجربته نوعا من التجريد الأوروبي كان قد بذل جهودا عميقة من أجل أن يقنع الآخرين بأصالة تجربته.
◙ أثره في الحياة الثقافية يتجاوز طلبته المباشرين إلى قراء بحوثه ومقالاته من المثقفين. وهو ما جعل لبيده مكانة خاصة على مستوى خلق وعي جمالي حديث
أسس لولادة جيل من الفنانين في تونس. وهو ما سيجعله يقف في صدارة المشهد دائما. تلك صورة لا يفكر فيها الفنان ولم يكن يحلم بها وهو الذي سعى إلى استعادة المبادرة من جماعة مدرسة تونس التي سعت إلى إنشاء فن محلي برؤية استشراقية.
ما فكر فيه بيده وما نفذه إنما يدخل في مجال المصالحة مع تراث جمالي يقع بعيدا عن النظرة المحلية. ذلك التراث هو مزيج من الرسم والموسيقى. الأشكال والأصوات. الطبيعة وما يقع وراءها.
لم يرغب في أن يكون زعيما لجيل جديد بعد أن انتهى زمن الزعامات، غير أنه في حقيقة ما أنجزه قد وصل إلى شيء من ذلك القبيل من غير أن يعلنه. وبالرغم من ذلك فإن جيل بيده أتيحت له فرصة قيادة العملية الأكاديمية غير أنه لم يحدث تحولا عظيما في الحياة الفنية بتونس. ذلك لأن الواقع في تغيره كان أسرع.
باحث ومفكر وأكاديمي. ذلك هو بيده. أثره في الحياة الثقافية يتجاوز طلبته المباشرين إلى قراء بحوثه ومقالاته من المثقفين. وهو ما جعل له مكانة خاصة على مستوى خلق وعي جمالي حديث. غير أن الفنان منه يظل هو الشخصية الذي تتمحور حولها كل التحولات التي تشهدها علاقته بالرسم.
حوار بين المفكر والفنان
في واحدة من تلك التحولات انتقل بيده إلى رسم الأجساد أو ما يسميه بـ"الأطياف". وهي كذلك حقا. ذلك لأنها أقرب ما تكون تجسيدا لمقولة "الواقع هو ذلك الوهم الذي لا نعترف بأنه وهم". يقول بيده "الأجساد التي أرسم هي لا زمانية ولا مكانية وليست ملكا لأحد، بل هي ملك مشاع باعتبارها تسكن كل ذهن حساس وهي متنوعة ولا نهائية بل سرمدية أبدية كالأطياف الحلمية".
وهنا بالضبط يشتبك الذهني بالحسي. المفكر والفنان في حوار تغلب عليه حميمية صداقة بين شخصين عاشا في جسد واحد. وهما مصرّان على ألاّ يفارق أحدهما الآخر. وإذا ما كان بيده قد وجد في تلك العلاقة المضطربة مناسبة للدخول إلى مرحلة فنية جديدة فلأنه كان في أمسّ الحاجة إلى أن يجرب مناطق جمالية جديدة بعيدا عن الطبيعة وتجلياتها في ما هو هندسي وغنائي من التجريد المرتبط بشكل كلي بطريقته في التفكير. الأجساد تحرره من هيمنة المفكر لتضع الفنان في الواجهة.
رسوم بيده لا ترهق المتلقي بالأسئلة ولا تريده أن يقف خارج سياق متعته البصرية. غير أنها في الوقت نفسه تطرح أسئلة كثيرة
أرسى قواعد التعامل مع الموروث الجمالي على أسس حديثة وهو ما تعلّمه الآخرون منه. غير أن أهم ما فعله في ذلك المجال أنه تحرر مما أنجزه وصار ينظر إلى فنه بمعايير مختلفة. بمعنى أنه تمرد على السياق النظري الذي صنعه من أجل أن يكون وسيلة لخلق معادلة جمالية هي ليست استجابة للمفاهيم السياسية التي استندت إليها ثنائية التراث والمعاصرة ذات يوم.
أخلص بيده لمغامرته الجمالية بعد أن صار على يقين من أن تجربته في تطبيق الأساس النظري الذي عمل عليه لسنوات قد اكتملت. غير أن ذلك لا يعني أن الفنان قد انتقل إلى مكان يجهل تفاصيله. لقد تبدلت الأشكال غير أن التقنية لا تزال كما هي وهناك قدر لافت من المرجعية الفكرية لا يزال يتحرك بحيوية داخل الأعمال الفنية.