"الجزيرة الحمراء".. فيلم فرنسي غير مرحب به في فرنسا

شاهدنا الكثير من الأفلام التي تتناول قضية الاستعمار من وجهة نظر من وقع احتلال أرضهم ومورست ضدهم شتى الجرائم والمظالم والنهب وغيرها من مآس ما تزال ماثلة بآثارها إلى اليوم. وهذه الأفلام أتقنت تصوير عنف الاستعمار وبشاعة جرائم المستعمرين، مجردة إياهم من الصور الملائكية التي روجوا بها لأنفسهم. لكن أن نرى فيلما من وجهة نظر طفل ابن جندي في جيش الاستعمار فهذا يقص الحكاية من زوايا أخرى، اجتماعية ونفسية، ويكشف جهاز الاستعمار والشعوب المستعمَرة من الداخل وبلا ضجيج معارك.
باريس - بعد سنوات طويلة يعود المخرج الفرنسي روبن كامبيلو إلى طفولته وينحت من الذاكرة فيلمه الجديد “الجزيرة الحمراء” حيث يعود إلى نهاية الفترة الاستعمارية الفرنسية لجزيرة مدغشقر، ويصور لنا حياة عائلات الضباط داخل ثكناتهم العسكرية الواسعة والغنية بكل وسائل الرفاهية والترفيه، فهي بالنسبة إليهم جنة الفردوس والتي يتمنون أن تظل خالدة في نعيمها المتنوع ومرحها وملذاتها.
في إحدى الحفلات تخيم أجواء المجون وكأنها حفلة تبادل الملذات، فالكل في حالة خمر، يرقصون ويشربون وتكثر الملامسات الجنسية ويكاد المخرج يوهمنا، أو أنه يبرز فكرة أن الاستعمار الفرنسي لهذه الجنة سيكون أبديا، ثم تبدأ الحقائق والأسئلة تكثر ولو بطريقة غير مباشرة، وفي نهاية الفيلم نستكشف الخارج أي ما يحدث خارج هذه الثكنة المحصنة، حيث المظاهرات والمقاومة ضد المستعمر ثم الاحتفال بالاستقلال وطرد الاستعمار.
الجنة الزائفة
اختار المخرج أن يعرض قصته في ذروة الطفولية ويشاركنا بها محاولا التمسك ولو ببعض عفوية الطفولة وصدقها وتلقائيتها، ومنذ اللحظة الأولى يختفي الطفل داخل بيت خشبي صغير وينظر عبر الفتحات الصغيرة إلى ما يحدث في حوش منزله، وقد حاول كامبيلو أن يخلق مساحة حميمية بيننا وبينه وتمسك بأسلوب يمكن وصفه بالانطباعي، فهو ليس توثيقا عسكريا، ولكنه نزع إلى دخول عناصر اجتماعية كالعلاقة بين والده ووالدته، الأب شخصية عسكرية لا نعلم بالبداية كثيرا عن وظيفته، لكنه في البيت يبدو لطيفا مع زوجته وأطفاله وبيتهم ملاذ تجمع الأصدقاء والحفلات، حيث يسود الضحك والمرح وخاصة في النصف الأول من الفيلم، ثم تظهر بعض المشاكل الزوجية والشكوك والحنين إلى الوطن الأم أي فرنسا.
الأسئلة الكبيرة والمعقدة تأتي بالتدريج وكأنها تحاول خلق حالة من الاضطراب، فهذه الأرض بشمسها وهوائها وهذا الدفء الرومانسي والعائلي وحتى الاجتماعي بين هذه العائلات، لكننا بعد ذلك نستكشف أن هذا المكان كثير التعقيد، هذه الأحلام التي نراها أو تعيشها الشخصيات وبعضها يكاد ينسى وطنه الأصلي ولا يهتم حتى التفكير بزيارته، والأطفال نراهم يؤمنون أن هذه جنتهم التي فيها اللعب والمرح والصداقات وحتى الله والكنيسة، إذن لا ينقصها أي شيء، ويجهلون كل الحقائق عن وظائف آبائهم العسكريين والذين من الطبيعي أن يمارسوا العنف والقسوة والقتل والحرق لما يوجد خارج هذه الثكنة الحصينة.
الفيلم على الرغم من بساطته فهو يكشف عن الكثير من الأشياء المهمة، ولعل الجزء الأخير وربع الساعة الأخير من الفيلم يجعلنا نصفق لهذا الفيلم ومخرجه ونستكشف أهمية وعمق الفن السينمائي وحاجتنا إليه لنعيد ترميم ذاكرتنا الإنسانية ونستكشف ما حل بالكثير من الشعوب المظلومة بسبب الدول الاستعمارية والتي كان دافعها الطمع بالثروات والتي غالطت وما تزال تغالط حول تاريخها القذر وجرائمها الفادحة في حق شعوب كثيرة.
عمل غير مرحب به
يتم سرد كل شيء من وجهة نظر الطفل (توماس) الذي هو مخرج الفيلم روبن كامبيلو، وهو يرى ويتلصص ويغامر بنقل بعض الأشياء، وبعض هذه الأشياء كأنه لم يفهمها عندما كان طفلا ويحاول فهمها بعد هذه السنوات الطويلة، ولا يغلق أمامنا المجال لتحريك مخيلاتنا وتفكيرنا لنفهم أكثر، أو ربما يكون هذا الفيلم دافعا لغيره في مدغشقر أو غيرها من البلدان المستَعمَرة والتي ما زال الكثير منها لم يتشجع لخلق أفلام عن تلك المرحلة.
ربما بعض الدول تعود إلى فترة الاستعمار تلك إذ هي الآن تحررت، ولكن البعض الآخر يخاف من غضب دول الاستعمار القديمة، والتي لا تحبذ النبش في ماضيها الدموي وتشجع على تزوير التاريخ والأحداث وتدعم أي فيلم يظهرها بثوب الملاك الطاهر والحنون وأن يتم تصوير تلك الشعوب بالمتخلفة والوحشية.
قرأت على بعض المواقع الفرنسية الكثير من الملاحظات السلبية ووصف الفيلم بالممل وعديم الفائدة ولا حكاية فيه، ومن الطبيعي أن يهاجم أي فيلم من هذا النوع ونعلم جيدا أن مثل هذه الأفلام كانت تمنع سابقا وهي ليست من الأعمال المرحب بها حاليا، وربما مستقبلا، خاصة مع نمو وتنامي الأصوات والتيارات العنصرية في فرنسا وكامل أوروبا، لذلك فهو من التجارب الشجاعة.
في أحد المشاهد يصور لنا الفيلم هجوما لبعض العاهرات المحليات على بوابة الثكنة وضرب الجنود بالأحذية، ونعرف بعد ذلك أن الجنود كانوا يتمتعون ولا يدفعون مقابل لذاتهم، هذا المشهد ببساطته فهو بالتأكيد يعطي الكثير من الأفكار عن بشاعة ممارسات جنود الاستعمار وفظاعة ما كانوا يرتكبونه.
أما تلك الطائرات الحربية التي تحلق في سماء هذه الجنة وتقذف بالمظليين فهذه المشاهد ليست لخلق لوحات جميلة للطبيعة الساحرة وهؤلاء الجنود بالتأكيد كانوا يمارسون مهام عسكرية وضرب جيوب المقاومة والقتل والحرق ومهام إجرامية أخرى.
جماليات رقيقة
تحاشى المخرج الأحاديث السياسية وكانت أحاديث الشخصيات اجتماعية وبعضها عاطفي أو لا شيء فيه، ولكن بالتأكيد نستطيع تلمس الكثير من الجوانب السياسية لتلك الفترة من خلال عيون الطفل والذي كان يتلصص ويسترق السمع ليخبرنا من وجهة نظره بالكثير من المتناقضات في هذه جنة المغتصبة، خلق المخرج وببساطة ودون لفت الانتباه العديد من الاستعارات الحساسة وبثها كفراشات في قوالب صورية ومؤثرات صوتية اتسمت بجماليات رقيقة.
الفيلم أيضا يجعلنا نعيد النظر في قراءة كتاب عظماء وبعضهم تورط بالدفاع عن الاستعمار وتمجيده وتبريره، وبعضهم سكت وأخذ موقف الجاهل عما يحدث هناك، وكان الفيلم في منتهى الإنسانية مع بؤساء أو ما يحدث لذلك الشعب المستعمر، لسنا هنا مع فيلم ثوري ولا أسرار نستكشفها لأول مرة ولا فضائح، ظل المخرج كامبيلو يؤكد أننا مع سرد من ذاكرة الطفولة وهي ليست قصة كاملة حيث توجد فراغات وقد ينتقل من شخصية إلى أخرى ولا يمكننا أن نطالبه الدقة والمنطقية.
الطفل في الفيلم كان في مقصورته الخشبية لا يرى التفاصيل كاملة وكذلك عندما يقف خلف الباب الزجاجي الملون أو يغامر بالتجول ليلا والصعود إلى النوافذ العالية، وهو ليس المخلوق السوبر مان الخارق، واكتشف أنه لن يكون كذلك وهو يتعاطف مع الفتاة المغامرة في كتاب القصة ويصورها له خياله هكذا كما شاهدناها، ويتساءل سؤال الخير والشر، الأخيار والأشرار.
ربما رفض الطفل المغادرة وفكرة ترك هذه الجنة لأنه كان مضحوكا عليه بأنه يعيش مع الأخيار وأن الأشرار خلف الأسوار بالخارج وربما كان استكشافه متأخرا وها هو هنا يستنكر الاستعمار بشجاعة طفولية ولو صغيرة ويمهد الطريق لغيره أن يكونوا أكثر منه جرأة في الإفصاح عما حدث.
يقدم لنا كامبيلو صورا بديعة ورائعة لمدغشقر، فالصور والموسيقى التصويرية رقيقة وكأن ثمة تناغما بين الأرض وصوتها، شخصيات الأطفال والمراهقين الذين يتبادلون القبلات بمكان كأنه مخصص للحظات الحميمية بين الشبان الصغار والشابات الصغيرات، وكل هذه الشخصيات الطفولية بريئة ولا تتجمل بأقنعة كما يفعل الكبار.
وروبن كامبيلو صاحب تجارب سينمائية وحصل على السعفة الذهبية من مهرجان كان في عام 2017 عن فيلمه “120 نبضة في الدقيقة” ولا ندري إن كان هذا الفيلم سيثير عليه بعض المشاكل، وقد يجد مشكلات معقدة في مشاريعه المستقبلية حيث بدأت تظهر موجات غضب من فيلمه هذا، وقد صور كامبيلو أيضا صورة المرأة الفرنسية قبل ثورة مايو 1968 وتلك الذكورية القاهرة والمستبدة من الأزواج وأبوه نموذجا، الأم الجميلة والأنيقة بجسدها المغري والأب العسكري مفتول العضلات والعم الماجن والساخر، في أحد المشاهد يكون الطفل بين ساقي أو فخذي أمه ويستمع لنقاش لم يفهمه عن مفهوم الخيانة الزوجية وكأن وجهة نظر الرجال ألا حرج من معاشرة المومسات.
تقريبا بعد الربع الأول للفيلم تتحرك العناصر المزلزلة وتبدأ تتساقط أقنعة الرجال كأزواج، ولكننا في ربع الساعة الأخير نرى الآخر المخفي ونرى مظاهرة عارمة ضد الاستعمار وخطب الذين تحرروا من السجون القاسية بأجسادهم النحيلة وحماسهم الصارخ، ثم يغني الشعب أغاني للحرية والحياة والعشق وتمجيد الأرض، ولم نرَ عنفا ضد المستعمر المهزوم والضباط وهم في طائرات المغادرة.