الجزائر في الجسد الذي تتخبطه العفاريت

شيء هستيري أن تخاطب “فرنسا الحاضر” بالقول: يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي وخذي منا الجواب.
الجمعة 2023/06/23
الجزائر تكون في حال أفضل، مع نفسها على الأقل، لو أنها شطبت فرنسا من الخارطة

تستحق “فرنسا الاستعمارية” كل ما يصيبها من كراهية الجزائريين وغيرهم، إلا أن الجزائريين لا يستحقون، حيال أنفسهم على الأقل، أن يجعلوا من الهستيريا سبيلا للتعامل مع “فرنسا المعاصرة” أو مع أيّ أحد.

شيء هستيري أن تخاطب “فرنسا الحاضر” بالقول: “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب – وطويناه كما يطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب – فاستعدي وخذي منا الجواب، إن في ثورتنا فصل الخطاب – وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر”.

تخيّل أن يذهب رئيس جزائري إلى فرنسا في “زيارة دولة” ليُعزف له نشيد بلاده الوطني، وليخطب في وجه مضيفيه بهذا الخطاب. ثم تخيل الشيء نفسه لو جاء رئيس فرنسي إلى الجزائر ليجد نفسه أمام خطاب عنيف مثل هذا، يستدرج كل وجه من وجوه القطيعة والكراهية، ولا يستدرج تعاونا ولا مصلحة.

الجزائر تكون في حال أفضل، مع نفسها على الأقل، لو أنها شطبت فرنسا من الخارطة، وقطعت كل الأواصر معها، إما لتعيش في هذا الخطاب، أو لتبحث عن خطاب آخر للعلاقة مع باقي العالم.

لقد كانت لحظة فارقة في تاريخ الاستقلال، يوم قررت الجزائر في العام 1986، أن تتوقف عن ترديد هذا القول العنيف في نشيدها الوطني. “لحظة فارقة”، لأنها أوحت بأن الجزائر تحرّرت من عقدة الكراهية لتؤسس علاقات عمل ومصالح ناضجة. أو قل إنها تحررت من عقدة الماضي لتنظر إلى المستقبل.

المزاجية لا تصلح لتكون عاملا من العوامل المؤثرة في السياسة. ولكن هل هناك شيء غيرها في بلد يُراد له أن يبقى مريضا، تتخبطه العفاريت؟

ولكنها كانت لحظة فارقة أخرى مضادة عندما قرر الرئيس عبدالمجيد تبون أن يُعيد ذلك الوعيد إلى النشيد الوطني، ليُثبت أن الجزائر لم تغادر موطئ قدمها مع الماضي، وليثبت أن ما يقرب من أربعة عقود من الزمن ذهبت هباء في السياسة، ولم تُثمر نضجا في العقول، وعادت الهستيريا لتكون هي لغة الخطاب الرسمي.

لماذا هستيريا؟ لأن العيش في الماضي محنةٌ مرضية، تتطلب علاجا بالفعل، ولأن خطاب العنف الذي كان مشروعا، بل مقدسا، في مواجهة استعمار وحشي، لم يعد يمتلك المعايير ذاتها بعد نيل الاستقلال والحرية.

يقول هذا المنعطف إن الجزائر لم تتحرر أصلا. ما تزال عبوديتها مع المستعمر تنهش في نفسها، وتنكأ جراحا تتعمد أن تُبقيها متقيحة. ربما لأنها لا تملك شيئا آخر لتفعله.

لقد استسلمت فرنسا لإرادة الشعب الجزائري. وأقرت، ولو بتردد وخفر، بأنها ارتكبت فظائع هناك. وكان الطريق مفتوحا لكي تصل فرنسا إلى الإقرار بالحاجة إلى تقديم الاعتذار عن تاريخها الأسود في الجزائر.

وكأيّ طريق في التعامل مع التاريخ، فإنه ينبغي أن يسلك خطين متوازيين، واحد يؤسس لعلاقات احترام متبادل، وآخر يدفع إلى اكتساب الحق المعنوي الذي لم يكتمل الفوز به.

أحد أوجه الفائدة من هذين الطريقين المتوازيين، هو أنه مثلما أن الجزائر ظلت مشدودة بعوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية بفرنسا، فإن الأخيرة نفسها ما تزال مشدودة بالجزائر فيما يشبه عقدة الذنب التي تجبر الجلاد التائب على أن يقتفي أثر الضحية ليُخفف عن نفسه وطأة الذنب.

حال الهستيريا تبدو أكثر عمومية في الجزائر اليوم وكأنها لم تغب أو تتلطف أصلا. حتى لا ينطق مسؤول فرنسي بكلمة، إلا وتثور ضده التصريحات المنددة والمستنكرة وكأن البلدين في حالة حرب. شيءٌ يشبه أن يكون هناك اثنان في مطبخ، فاستخدم أحدهما ملعقة غير التي كان يرغب بها الآخر، فقلب هذا الآخر على رأس غريمه كل الصحون والطناجر والسكاكين والملاعق وظل يصرخ.

أنظر إلى الوضع الهستيري الذي نشأ من جراء تصريح مهذب ومتحفظ ويكاد لا يقول شيئا، قدمته وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، قبل أن ترى كيف طقطقت الطناجر وعلا الصراخ على الطرف الآخر.

في التعليق على المرسوم الذي أصدره الرئيس تبون بإعادة خطاب العنف والوعيد إلى النشيد الوطني، قالت كولونا إن ذلك الخطاب “تجاوزه الزمن، ولا أريد التعليق على نشيد أجنبي، لكن هذا النشيد كان كُتب عام 1956 في سياق وظرف الاستعمار والحرب، ويتضمن كلمات قوية تعني فرنسا”.

هذا التصريح البارد والمتحفظ والذي يكاد لا يقول شيئا، أقام الدنيا ولم يقعدها في الجزائر. لماذا لأن الأمر لا يتعلق بمنطق.

الجزائر لم تتحرر بعد. لم تخرج من العقدة. وهي تخوض حربا مع نفسها، ضد بقايا “الوجود الفرنسي” في نفسها، كمن يخوض حربا مع العفاريت التي يعتقد أنها لم تخرج من جسده، فيظل يتخبط

البعض قال إن “تصريحات الوزيرة الفرنسية مستفزة وعدائية، وتزيد التوتر بين البلدين، وتنسف أيّ محاولة للتهدئة السياسية”. لم يقل هذا البعض أين كان ذلك. كما لم يلاحظ أن خطاب الويل والثبور في نشيد وطني هو مصدر الاستفزاز والعدائية.

شيءٌ من العمى المرضي هو الذي يمنع من النظر إلى هذه الحقيقة البسيطة.

آخرون قالوا إن كولونا “تتمنى أن تكون لها أفضل العلاقات مع الجزائر وفي نفس الوقت تشكك في قرار الجزائر السيادي بتوسيع استخدام نشيدها الوطني في ظل الظروف والشروط التي تختارها الحكومة الجزائرية”.

والمرأة لم تقل شيئا يمس “القرار السيادي” قالت إنه “تجاوزه الماضي، وكُتب في سياق ظروف أخرى”، وهذه حقيقة، إلا للذين لم يغادروا الماضي، فلم يروا السياق. ثم قالت إنه يتضمن “كلمات قوية”. وما أتعس تلك السيادة التي لم تنظر في حقيقة أن تلك الكلمات قوية بالفعل.

وندد آخرون بتدخل كولونا في الشؤون الداخلية للجزائر. وقال غيرهم إن فرنسا تستعدي الجزائر ولا تتعامل معها باحترام.. وهكذا حتى تقلبت كل طناجر المطبخ وصحونه وملاعقه وسكاكينه على رأس هذه المسكينة التي قالت إنها “لا تريد التعليق على نشيد أجنبي” أي أنها لا تريد أن تتدخل في شأن لا يخصها.

المسألة هي أن الجزائر لم تتحرر بعد. لم تخرج من العقدة. وهي تخوض حربا مع نفسها، ضد بقايا “الوجود الفرنسي” في نفسها، كمن يخوض حربا مع العفاريت التي يعتقد أنها لم تخرج من جسده، فيظل يتخبط.

قد يشعر قادة الجزائر أنهم لا يمتلكون الكثير من أدوات النضج ليحكموا، فيؤثرون التحريض وصنع التوترات وإثارة الأحقاد والضغائن، ليعيشوا عليها. ولكن هذه هي بضاعة المفلس في نهاية المطاف.

هل تريد أن تعرف لماذا يتعاملون بالطريقة نفسها مع المغرب؟

المزاجية لا تصلح لتكون عاملا من العوامل المؤثرة في السياسة. ولكن هل هناك شيء غيرها في بلد يُراد له أن يبقى مريضا، تتخبطه العفاريت؟

9