الجزائر رواية مفتوحة ونص يرفض أن ينتهي

يوثق كتاب “أيام هادئة في الجزائر”، للكاتبين ميلاني ماتاريس وعدلان مدّي، أهم التحولات التي تعيشها الجزائر، عندما كانت دول الجوار العربي تعرف تحولات عميقة في السنوات الماضية، بدأت مع ثورة الياسمين التونسية 2011، وما شهدته مصر واليمن وليبيا لاحقا، إلا أن هذه التحولات التي حدثت من داخل الجزائر، وفي صمت، لم ينتبه إليها الكثيرون رغم أنها مهمة.
كتاب يوميات
ميلاني ماتاريس، صحافية فرنسية، تقيم في الجزائر منذ عشر سنوات، وترأس تحرير أسبوعية “الوطن ويكاند”، برفقة عدلان مدّي، الذي عُرف بروايته البوليسية “صلاة الموريسكي”، الصادرة عن دار البرزخ (2008)، كانا يتنقلان في السّنوات الماضية بين مدن الجزائر وقراها من الشّمال إلى الجنوب، لقد تسكعا في الأزقة الخلفية من العاصمة، وزارا طبقات المجتمع المنسية في الصّحراء، وعاشا الرّبيع العربي من الجزائر، وكتبا في يومياتهما عن حالات شعب حالم، غاضب، قلق، شعب مسكون بأرواح الأجداد الذين قادوا ثورة التّحرير (1954-1962)، وهو عاجز الآن عن الخروج من الظّلمة التي فرضت عليه.
يكتب الروائي كمال داود (46 عاما) في توطئة الكتاب، الصادر باللغة الفرنسية عن منشورات ريفناف، باريس 2016 “الجزائر متاهة، وهو توصيف ينطبق على كتاب اليوميات نفسه، فهو بلد يمكن أن نجد له مدخلا، ولكن من الصّعب أن نجد مخرجا له، فالجزائر العاصمة لم تعد تلك المدينة البيضاء، كما كانت تصوّرها البطاقات البريدية القديمة، والصّحراء لم تعد مزارا سياحيا كما تصوّرها الخطابات الرّسمية، بعدما سكنها الخوف وأثيرت فيها الصّراعات العرقية (بين إباضيين ومالكيين، وبين طوارق وعرب)”.
كما أن المدّ الإسلاموي، الذي تحدّث عنه الكاتبان، لا يزال يواصل تطوّره، مما أثّر على حياة الهامش؛ غيّر سلوكيات النّاس، وزادهم عدوانية، وعجّل بخنق المدن، وفشلت الكثير من الوسائل في الحدّ من سلطة رجال الدّين، ولا شيء يهدّد توسعهم اليوم أكثر من غضب نسوة البلد.
من جهة أخرى كتب عدلان مدّي “الثورة لن تقوم بها سوى نساء”، فعلى عكس ما يظهر من الخارج، الجزائر ليست بلدا بطريركيا، بالمعنى الفلكلوري للكلمة، فقد حققت النساء فيه حضورا في الفضاءات العامّة، وبما أنهن الأكثر تضرّرا من جراء الخطاب الدّيني المتشدّد، فقد اتفقن على مواجهته بهدم البعض من التّقاليد الدينية (في اللباس مثلا)، بشكل أثار ويثير سخط الأئمة والدعاة، لكن هذه الثورة «المصغّرة» لم تخرج من دائرة المبادرات الشّخصية، فالجزائر لا تزال بلدا «منغلقا على نفسه»، يصعب فيه العيش على الجزائريين، وعلى الأجانب في آن.
ذكريات مشوهة
|
تاريخ ثورة التّحرير والعلاقة الملتبسة مع فرنسا هما من الطابوهات، نتحدث عنهما غالبا بحذر في الجزائر، ليس خوفا، وإنما لافتقاد الحقائق كاملة، وتغييب الأرشيف، فـ”تاريخ الجزائر لا يزال مجرد ذكريات مشوّهة من أولئك الذين صنعوه. ويخضع لأهواء السّياسيين”. لكن الشّيء الأكيد في هذا التّاريخ هو سقوط الأساطير المؤسّسة له، والتي حاولت الحكومات المتعاقبة، منذ الاستقلال، التّرويج لها.
فالجزائر ليست “قبلة الثّوار” كما كانت توصف، وليست “كوبا عربية” كما أطلق عليها البعض، فقد وقعت في يد زمرة حاكمة، عدّلت الدستور للحفاظ على الكرسي، هذه الزمرة أزعجها كثيرا الرّبيع العربي، وتوجّست منه، لهذا سارعت إلى كبت غضب الشّباب، الذي خرج إلى الشارع، شتاء 2011، وساندت أنظمة عربية تشبهها، ففي تحليلها لأسباب دعم النّظام الجزائري للنّظام السّوري، تقدّم ميلاني ماتاريس، نبذة عن التّاريخ المشترك للجماعات الحاكمة في البلدين، التي ربطت بينها
علاقات مصاهرة، ومصالح شخصية، لكن ما حصل في سوريا حرّك مخاوف الحاكم في الجزائر، الذي اضطرّ لتقديم تنازلات «قليلة» كسب بها رضا شرائح من المجتمع، وعزّز غضب شرائح أخرى ضدّه.
رواية مفتوحة
شرع المؤلفان ميلاني ماتاريس وعدلان مدّي في توثيق «يومياتهما» بداية من 2007، وانتهيا منها في نهاية 2015، شرعا في الكتابة يوم كان سعر برميل البترول (الذي يمثّل الدّخل الأساسي في البلد) يتجاوز 100 دولار، وأتمّا عملهما يوم انخفض إلى أقل من 45 دولارا، وتهاوى معه اقتصاد البلد، وأعلنت الحكومة عن حالة التقشف، فعلى مدى قرابة العشر سنوات رافقا فيها الجزائر من الداخل، وكانا فيها شاهدين على سنوات الرّخاء ثم سنوات “العطب”.
كما شهد الكاتبان كيف انقسمت البلاد إلى شعبين؛ شعب يعيش في النّهار، وآخر لا مرئي، لا يخرج سوى في الليل، تحدّثا عن جيل “الحراقة”، وهم المهاجرون غير الشّرعيين، وعن الأفارقة في الجزائر، وما يعانون من جرّاء العنصرية، وعن غضب الصّحافيين والمثقفين والفنّانين، وتكتلهم في جماعات غاضبة (مثل حركتي بزّاف، وبركات)، وعن دخول الصّينيين إلى الجزائر، وتحوّل البعض من الجزائريين إلى تعلّم الصّينية، كل هذه المسارات والتحوّلات، التي جاءت في كتاب “أيام هادئة في الجزائر”، من شأنها أن تجعل من الجزائر رواية مفتوحة، نصا يرفض أن ينتهي، جسدا منتهكا. الجزائر بلد يدكّ رأسه في الماضي، ويتجنّب أن يواجه حاضره.