الجزائر تدخل معركة خصخصة قطاعها المصرفي المترهل

شرعت الجزائر في خوض تجربة جديدة لخصخصة البنوك المملوكة للدولة، التي تعثرت مرارا في السابق، باعتبارها ضرورة ملحة لتطوير القطاع المصرفي المترهل من خلال تعزيز حوكمته وتحسين فاعلية إدارته بما يخدم مسار جذب الاستثمار وتنويع الاقتصاد.
الجزائر - فتحت الحكومة الجزائرية أخيرا نافذة خصخصة بنوكها العمومية، التي طال انتظارها، في محاولة لطي صفحة تجارب سابقة فاشلة بسبب استشراء الفساد واتكاء الدولة على عوائد النفط والغاز وسوء إدارة القطاعات الإستراتيجية.
وأعلن بنك القرض الشعبي هذا الأسبوع عن عزمه طرح 30 في المئة من رأسماله للاستثمار الخاص، ما يخول للدولة إبقاء السيطرة على أصوله.
ولم يذكر البنك في بيان الخميس الماضي موعد طرح أصوله للبيع، لكنه اكتفى بالقول إن “سهمه يقدر بسعر 2500 دينار (18.66 دولار)” وإنه “سيبيع 60 مليون سهم”.
وتبلغ قيمة الحصة التي تنوي السلطات بيعها نحو 1.12 مليار دولار، ما يجعل تقييم البنك عند نحو 3.73 مليار دولار.
وسيكون القرض الشعبي بمثابة نموذج اختبار سيتم على أساسه تقييم التجربة قبل مواصلة الخصخصة من خلال بنكين آخرين هما بنك التنمية المحلية وبنك الفلاحة والتنمية الريفية اللذين يتوقع طرح جزء من أصولهما في 2025، أو التوقف عنه.
ويقول خبراء إن الدافع من الخطوة يعود إلى رغبة الحكومة في تجنب سيناريوهات الأزمات السابقة، عندما وجدت الدولة نفسها أمام شح الموارد وضعف التمويل نتيجة اعتمادها المفرط على عوائد الوقود الأحفوري.
1.12
مليار دولار قيمة الحصة التي تنوي الحكومة بيعها، وتمثل 30 في المئة من البنك
وأشاروا إلى أن الخصخصة قد تكون خطوة في طريق طويل من أجل ترقية البورصة المحلية التي تعد متخلفة قياسا بنظرائها في شمال أفريقيا.
وعلى مدار عقود ظلت الأموال المتأتية من تجارة النفط والغاز المصدر الرئيسي لنشاط البنوك، مما جعلها تغرق في متاهة نمط قديم في الإدارة وجعل مساهمتها لا تذكر في نمو الناتج المحلي الإجمالي.
وتعمل في السوق الجزائرية 29 مؤسسة مصرفية، منها سبعة بنوك حكومية، وأكثر من 20 بنكا أجنبيا من دول الخليج وأخرى فرنسية وواحدة بريطانية.
وإلى جانب بنك القرض الشعبي، تملك الدولة كلاّ من البنك الوطني الجزائري وبنك الجزائر الخارجي وبنك التنمية المحلية والصندوق الوطني للتوفير والاحتياط وبنك الفلاحة والتنمية الريفية، وهو أكبر البنوك الحكومية من حيث شبكة الفروع في البلاد.
وتسيطر هذه البنوك على معظم أصول ومحافظ قروض القطاع المصرفي، حيث تحوز مجتمعة على 95 في المئة منها، في حين تملك بنوك مثل سوسيتيه جنرال وبي.أن.بي باريبا الفرنسيين أقوى حضور بين البنوك المملوكة لمؤسسات أجنبية.
ويتبنى الرئيس عبدالمجيد تبون إحياء فكرة خصخصة البنوك، حيث طالب قبل عامين بتسريع “مسار فتح رأسمال البنوك العمومية بطريقة علمية ومدروسة بدقة، تحفز على تغيير نمط التسيير القديم المرتكز على الإدارة بدل الكفاءة الاقتصادية”.
وشدد خلال اجتماع لمجلس الوزراء في 2022 على مبدأ الشفافية لمباشرة الإصلاح المالي ومسايرة التحولات العالمية في هذا القطاع، الذي يعد “ركيزة الاقتصاد”.
ويفترض أن تفتح الخطوة الباب للمستثمرين الأجانب للاستحواذ على حصص مسيطرة في البنوك بعد أن كان لزاما على الشركات الجزائرية الاحتفاظ بحصة أغلبية في أيّ شراكة مع أجانب.
ومع ذلك، فإن بعض المتابعين يعتقدون أن الأرضية لا تبدو قوية رغم ما تم القيام به من تحديثات في القوانين والأنظمة، وأن على الحكومة إعطاء تطمينات للمستثمرين قبل دخولهم هذه المغامرة التي قد تكون محفوفة بالمخاطر.
وحالت البيروقراطية ونقص الاستثمارات، خاصة من قبل الشركات الأجنبية، دون أن تتمكن الجزائر في السابق من تطوير قطاعاتها غير النفطية رغم الوعود الكثيرة التي لم تجد طريقا لتنفيذها واقعيا.
ودفعت الضغوط التي عانى منها الاقتصاد بسبب نضوب عوائد الوقود الأحفوري منذ 2014 ولغاية اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى إجبار الحكومة على تقليص الإنفاق والبحث عن مصادر تمويل بديلة.
ورغم أنها تسير ببطء شديد تستهدف الإصلاحات خفض الاعتماد على النفط والغاز اللذين يمثلان نحو 60 في المئة من الميزانية العامة و94 في المئة من مجمل إيرادات صادراتها.
وسعيا منها للقطع مع الماضي، ألغت السلطات مطلع 2021 قاعدة تمنع الأجانب من تملك حصص تزيد على 49 في المئة، في إطار سعي البلد العضو في منظمة أوبك إلى تحسين مناخ الاستثمار وتنويع اقتصاده.
ووصل قطار الإصلاح إلى القطاع المصرفي في 2023 حينما بدأت البنوك في الانفتاح على الخارج عبر فتح فروع لها في موريتانيا والسنغال وأوروبا انطلاقا من فرنسا، في محاولة لاقتفاء أثر البنوك المغربية.
وتم تعزيز القطاع المالي بإصدار تشريعات وتنظيمات جديدة، على غرار الترخيص بإنشاء مكاتب صرافة تنشط بشكل رسمي، وهو إجراء تعوّل عليه السلطات لتقليص الضغط على السوق الموازية للعملة.
وهذه ليست المحاولة الأولى لبيع البنوك، فقد فكرت الحكومات المتعاقبة أثناء حكم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة للقيام بذلك وسعت أواخر 2016 لطرح حصص من البنوك في البورصة، لكن ارتباك السياسات وانتشار الفساد عرقلا تدفق الاستثمارات.
وقبل ذلك ألغت الجزائر خططا تتعلق بالخصخصة في عام 2007 قبل يومين فحسب من الموعد النهائي لتقديم العروض متعللة بالأزمة المالية العالمية في ذلك الوقت. وكانت الخطة تقضي ببيع حصة أغلبية في القرض الشعبي.
الخصخصة قد تكون خطوة في طريق طويل من أجل ترقية البورصة التي تعد متخلفة قياسا بالمغرب وتونس
ومنذ ذلك الحين، حثت المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليَيْن الحكومة الجزائرية مرارا على إصلاح القطاع المصرفي غير المتطور وتحديث البورصة، التي لا تسهم سوى بنحو 0.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لجذب الاستثمارات الأجنبية.
ولا يوجد في البورصة سوى 5 شركات مدرجة، هي أليانس للتأمينات والأوراسي للفندقة وصيدال وبيوفارم اللتان تنشطان بالصناعات الصيدلية وأوم أنفيست للسياحة، بحسب البيانات في المنصة الإلكترونية لسوق المال.
كما أن السيولة المتداولة في البورصة، والتي تشير التقديرات أن قيمتها السوقية لا تتجاوز 140 مليون دولار، منخفضة للغاية، مقارنة بالسوقين المغربي والتونسي.
ويظهر تعديل الإطار الرأسمالي لنشاط القطاع المصرفي أنه يتعين على البنوك الراغبة في الدخول إلى البورصة الحصول على ضوء أخضر مسبق من البنك المركزي قبل أيّ مبادرة من شأنها تمرير أكثر من 49 في المئة من رأسمالها إلى أيدٍ أجنبية.
وأكد صندوق النقد الدولي بعد اختتام زيارته إلى الجزائر في ديسمبر الماضي أن آفاق الاقتصاد الجزائري على المدى القريب مواتية لكن التضخم لا يزال مرتفعا.
وقال في تقرير إن “الآفاق الاقتصادية على المدى المتوسط ستعتمد على الإصلاحات الرامية إلى تنويع الاقتصاد وتعزيز النمو الشامل الذي يقوده القطاع الخاص، إلى جانب توفير فرص العمل”.
وأوضح أن استمرار ارتفاع التضخم وتقلب أسعار المحروقات والتعرض لتغير المناخ تعد من المخاطر الرئيسية التي تهدد الاقتصاد.