الجزائر الآن، نهاية الثقافة الرسمية

سعر برميل البترول في تراجع، والثّقافة في الجزائر تدفع الثّمن، فقد تراجعت ميزانية القطاع بما يُقارب 60 بالمئة، والوزير الحالي بات عاجزًا عن إيجاد حلول وجدول النّشاطات السّنوية تقلّص. فهل هي بداية نهاية الثّقافة الرّسمية؟
يُحسب للرّئيس عبدالعزيز بوتفليقة أنّه حرّر الثّقافة من التّبعية لوزارة الاتّصال، ومنحها إطارًا مستقلاً، ولكن يُحسب عليه مبالغته، في السّنوات العشر الماضية، في تحويل الثّقافة إلى وعاء «بروباغندا» في خدمة سياسته، فقد انتقلت «الثّقافة» من خدمة المواطن إلى خدمة الرّئيس، الذي أغدق عليها بميزانيات سنوية سخيّة، ففي الفترة من 2003 إلى 2013 تضاعفت ميزانية القطاع ثماني مرّات، ووصلت سقفًا تاريخيًا، غير مسبوق، تعدى رقم 561 مليون دولار(قبل عامين)، هذا الرّقم الذي يتجاوز الدّخل القومي لبعض الدّول النّامية، أُستثمر في التّسويق لعهدتي رئيس الجمهورية الثّانية والثّالثة، وفي خدمة خطّه.
الجزائر، ورغم الأغلفة المالية الضّخمة، لا تتوافر على بنية تحتية ثقافية، تُعاني قلّة في أعداد المكتبات وندرة في المسارح وفي قاعات السّينما، فالأرقام المالية السّنوية كانت توجّه، بالأساس، لاحتضان تظاهرات كبرى (سنة الجزائر في فرنسا، عاصمة الثّقافة العربية لمرتين، مهرجان ثقافي أفريقي، عاصمة الثّقافة الإسلامية.. إلخ)، بهدف تصدير صورة ناصعة عن البلد، في الخارج، وغضّ الطّرف عمّا يحدث في الدّاخل، وهي تظاهرات طغت عليها النبرة الرّسمية، ولم تحظ بمتابعة جماهيرية حقيقية.
2016 ستكون، بلا شكّ، سنة صعبة على قطاع الثّقافة، فقد تهاوت الميزانية العامة للقطاع، متأثرة بتراجع أسعار برميل البترول (36 دولارا للبرميل)، وتدحرج رقم الميزانية إلى 167.6 مليون دولار (فقدت أكثر من 390 مليون دولار في ثلاث سنوات)، مما حتّم على الوزير عزالدين ميهوبي إلى الإسراع في إعادة جدولة النّشاطات السّنوية للوزارة، تقليص عدد مهرجانات (كانت الوزارة تعتمد 200 مهرجان في مجالات مختلفة)، وإلغاء بعض منها، بل ذهب بعيدًا في دقّ ناقوس الخطر بدعوته القطاع الاقتصادي الخاص إلى الاستثمار في الثّقافة، وهي دعوة جاءت متأخرة، بحكم أن الثّقافة في البلد وقعت، بفعل جملة القوانين والتّشريعات التي سنّت، في السّنوات الماضية بين يدي السّلطة، وصارت الثّقافة مرادفًا بالضّرورة للثّقافة الرّسمية، التي قضت على كثير من المحاولات التي قادتها تنظيمات من المجتمع المدني للتّأسيس لثقافة بديلة أو ثقافة مستقلّة في الجزائر.
بحسب الخبير في السّياسات الثّقافية الدكتور عمار كساب فإن تراجع ميزانية الثّقافة، سيفرض على المسؤولين اتخاذ إجراءات عاجلة، في المستقبل القريب، ربما بتسريح بعض الموظّفين (أو المتعاقدين) في مؤسسات القطاع وتوقيف العمل على مشروعات بنية تحتيّة.
سنوات «الرّخاء»، التي قطفت ثمارها الوزيرة السّابقة خليدة تومي (بين 2002 و2014)، يدفع ثمنها الآن الوزير عزالدين ميهوبي، الذي قبل لعب دور «الكومبارس»، ليجد نفسه وحيدًا في مواجهة «التّصحّر» القادم، دعواته المستميتة للمستثمرين للتوّرط في الفعل الثّقافي وضخّ مال فيه لن تخرج عن دائرة اللعب في الوقت بدل الضّائع، فالجزائري العادي، ومعه رجال الأعمال، فهموا أن الثّقافة «أرض شائكة» سُلبت منها الحريات التي من المفروض أن تُحافظ عليها، وبات قطاع السّينما مثلاً ضحية قانون يمنع الاجتهاد في قراءة التّاريخ أو التّأويل، وسوق الكتاب وقع في مصيدة قانون يمنع عنه الخوض في قضايا ما يُطلق عليه: المساس ﺒ«القيم»، وهي كلمة فضفاضة تُستغل لوقف كلّ كتاب لا يوافق مزاج جهاز الرّقابة، وتكفي نظرة سريعة على قائمة الكتب الممنوعة في معرض الجزائر الدّولي الأخير ليدرك القارئ أن الكتاب لم يعد «سلعة» فكرية، بل أداة سياسية.
مع بداية السّنة الجديدة، تكون تظاهرة «قسنطينة، عاصمة الثّقافة العربية 2015» قد قطعت نصف الطّريق، لتتحوّل إلى تظاهرة “شبه ميّتة”، بسبب عزوف المواطنين على التّفاعل معها، وعدم تفكير المسؤولين سوى في الانتهاء منها في أقرب وقت، لتكون بذلك آخر حدث كبير تحتضنه الجزائر (عدا المهرجانات السّنوية ومعرض الكتاب، التي ستتقلص ميزانياتها أيضًا)، في انتظار تبعات أخرى للسّقوط الحرّ لسعر برميل البترول، الذي لن يرحم قط بيت الثّقافة.
كاتب من الجزائر