الجزائري موسى بوردين يعرض أعمالا واقعية وتجريدية ترصد سحر المرأة

انبهر الفنان التشكيلي موسى بوردين منذ طفولته بعالم المرأة، فجنّد ألوانه وريشاته لإعادة تجسيد اللحظات الأنثوية التي تكشف ملامح عوالم النساء، عند الحزن والفرح، في الأماكن المغلقة أو المفتوحة، وكلها عوالم جزائرية تحافظ على تفاصيل الموروث المحلي الذي يخفي في طياته انفتاحا على حضارات وثقافات كثيرة.
الجزائر - ينتظم برواق “الطاووس” بمركز الفنون لرياض الفتح بالجزائر العاصمة معرض فني للتشكيلي موسى بوردين يضم مجموعة من آخر أعماله التي أنجزت جلها خلال السنة الجارية ليواصل فيها استنطاق حضور المرأة في المجتمع بكل تجلياته، من خلال الرموز واللباس التقليدي، بكل ما تحمله من دلالات تشع بالجمال وسحر التراث.
ويتواصل المعرض الذي افتتح السبت إلى غاية الخامس والعشرين من يونيو الجاري، وفيه يعرض بوردين رؤيته الفنية للمرأة باعتبارها فاعلا رئيسيا في المجتمع الجزائري.
وتهيمن المرأة بكل حضورها الاجتماعي والروحي على أعمال الفنان الجزائري بوردين، صاحب الـ76 عاما، والذي يعدّ من رواد الفن التشكيلي الجزائري المعاصر، بما يقدمه من عناصر تقنية وفنية عالية تبرز مكانة المرأة وحضورها في المجتمع ومساهمتها في حماية التراث والثقافة بجمالية وحساسية مفعمة حيث يتيح لزوار المعرض الذي يحمل عنوان “أعمال جديدة” فرصة الولوج إلى عوالم المرأة الساحرة ليأخذنا من خلال لوحاته البديعة التي تعج بالحياة والألوان ووشوشات النساء إلى رحلة حنين ولحظات جميلة للمرأة في المجتمع الجزائري.

الفنان التشكيلي موسى بوردين يجسد عبر ريشته ومن خلال الألوان الهادئة حركات أجساد النساء وهن في فضاءات عائلية
كما تنبعث من الأعمال المعروضة للفنان، الذي يشكل موضوع المرأة شغله الشاغل، رائحة الأمومة وذكريات الجدات في مختلف المناسبات حيث يرصد بوردين بدقة حركة عيون المرأة ونظرتها المتعبة والحزينة أو تلك التي تشع بالضياء والحب.
ويجسد الفنان عبر ريشته ومن خلال الألوان الهادئة حركات أجساد النساء وهن في فضاءات عائلية يرتدين أبهى الأزياء التقليدية والحلي التي تعكس الموروث الثقافي الجزائري، إذ استطاع الفنان بحسه الفني الراقي أن يعيد تشكيل شاعرية تلك الأجواء الأصيلة في أشكال فنية دقيقة وألوان زاهية تعج بالحياة وتكاد تتحرك على سطح اللوحة.
ومنحت ريشة بوردين للوحاته بعدا جماليا آسرا مألوفا لحضور المرأة يسمو إلى كل ما تبذله من جهود من أجل إسعاد عائلتها ومحيطها، وتميز إنجازه الفني بالكثير من الحساسية والعطف الذي يرصد طبيعة يوميات المرأة في محيطها الواسع وأيضا العائلي من خلال مشاركتها في المناسبات من أعراس وزيارات وأحاديث وحكايات وأسرار في جلسات نسائية.
ويظهر ذلك جليا من خلال لوحات وبورتريهات على غرار “نظرة” و“الطفل المريض” و“طفل وأم” و“العودة” و“زيارة1 و2” و“وحيدة” و“تام 1 و2”، وهي بورتريهات تبرز جمال المرأة وعنفوانها ومختلف حالاتها النفسية.
ويلاحظ الزائر في إحدى اللوحات المحورية لهذا المعرض تجربة أخرى مغايرة ضمن هذه المجموعة للفنان بوردين الذي اعتمد على تقنيات وروح المدرسة التجريدية حيث تبدو ملامح الشخوص فيها غير واضحة المعالم وبالألوان الداكنة ورمادية غالبا ما تحيل إلى أجواء نفسية مغايرة للمجموعة الجديدة التي تغلب عليها الألوان الوردية والزرقاء والخضراء والبنفسجية الهادئة والمتدرجة والتي تشع بالحياة.
جلسة عائلية خاصة
لقد جسد الفنان في مجموعته الجديدة هذه، المتكونة من 28 لوحة، عملا مميزا ضمنه لمسته الساحرة الخاصة بتقنيته الدقيقة ونجح في رصد المرأة وإشراقتها وبإضفاء شعلة من الألوان الهادئة على تلك الوجوه النسوية التي أبدعها، وحاول من خلال الرسم والبحث والدراسة أن يفكك أسرار تلك الوجوه المضيئة والأزياء والوشم التي تحدت الزمن وبقيت شامخة.
وزاد تنوع الألوان والإضاءة من جمال وسحر اللوحات المعروضة بأناقة والتي تؤكد قدرة الفنان على ترك بصمته المميزة على أعماله بفضل إتقانه ومزجه للعديد من التقنيات وتجسيدها على إبداعاته.
وأشارت المسؤولة على رواق “الطاووس” آمال ميهوب إلى أن “الأعمال المعروضة تمثل أحدث إبداعات” بوردين الذي يعد “من رواد الفن الجزائري الحديث وصاحب بصمة فنية قيمة حيث لطالما شكلت المرأة محور أعماله التي ينجزها بتقنية الباستيل وبحساسية عالية مرهفة وأراد من خلالها تكريم المرأة الجزائرية ونضالها من أجل الحفاظ على تراثها الثقافي”.
وموسى بوردين هو فنان تشكيلي من مواليد 1946 بالجزائر، درس في الستينات بجمعية الفنون الجميلة ليشارك بعدها في العديد من المعارض الفنية الفردية والجماعية داخل وخارج الجزائر.
أنجز بوردين سنة 1984 وتحت إشراف التشكيلي الراحل امحمد اسياخم مجموعة بورتريهات لشهداء الثورة التحريرية تعرض على مستوى المتحف المركزي للجيش وله أعمال فنية أخرى تعرض بدورها بالمتحف الوطني للفنون الجميلة.
وتبدو أعمال الفنان عامة وكأنها علامة شاهدة على لحظات التأمل الذاتي والاستبطان. حيث يظهر إحساسه القوي بالألوان في صور حميمية، يمارس من خلالها بوردين فن التصوير الذاتي، فهو يكشف لنا عن بعض الأجزاء الحميمة من حياته السعيدة ولكن أيضا الصاخبة ويواجهنا في نظرة مؤثرة، بالصورة الرهيبة التي رسمها الرسام عن النساء في حياته ومحيطه، وكيف ينظر إليهن ويرصد حركاتهن ويتذكرهن.
وتظهر النساء في لوحاته عشيقات للمكان، فهو يصور المرأة دون استثناء سواء كانت المرأة الزوجة، الابنة، أو حتى النساء الصديقات أو المتشاجرات وهو يجسد العلاقات بين النساء من منظور إنساني.
ومهما طور الفنان من أسلوبه ونوع في المدارس التشكيلية التي يتبعها، تظل سلسلة أعماله الجديدة وفية لأساسياته وموهبته التي تميّز بها منذ بدايته، وتظل المرأة بطلته الأولى.
إنه يقدم لنا رحلة غير قابلة للتغيير، رحلة وفية لمبادئه، وتتألف من الحنين إلى الماضي وعاداته ومشاهده الحميمة. رحلة تأخذنا إلى بطلات تشهد عليهن طفولته وحياته في الجزائر.