"الجديد" تنشر أول ملف عربي عن الكاتب ج. ج. بالارد

تواصل مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية نشر أعدادها المتلاحقة، عددا إثر آخر، مثيرة أهم القضايا الفكرية والأدبية والفنية، مستقطبة المئات من الكتاب والشعراء والفنانين العرب والعالميين من المشرق إلى المغرب، ولا تحيد في عددها الأخير لشهر مايو الجاري عن المسار الذي اتخذته منذ قرابة السبع سنوات، في إثارة الجدل الثقافي والفكري وتقديم ما هو جديد للقارئ العربي.
لندن- افتتحت مجلة “الجديد” الثقافية اللندنية شهر مايو الجاري بعدد ثري يحاول الغوص بالقارئ العربي في أعماق القضايا الثقافية الراهنة، وقد اختارت المجلة قضية الأيديولوجيا بما تمثله من رهان فكري وجدل اليوم، فيما قدمت لقرائها نصوصا قصصية تنشر للمرة الأولى.
ويحتوي العدد الجديد من المجلة على ملفين رئيسيين الأول فكري والثاني أدبي. في الملف الفكري “هاوية الأيديولوجيا – أصفاد العقل ومتاهة الأفكار” مقالات فكرية تناولت الأيديولوجيا بوصفها منظومة مخاتلة آسرة للعقل والخيال وحرية الأفراد والمجتمعات. شارك في الملف كل من خلدون الشمعة وأحمد برقاوي ومفيد نجم وحسام الدين فياض وعبدالرحمن بسيسو.
بداية يبين خلدون الشمعة في ورقته بعنوان “الجميلة النائمة في التابوت” أن البعض يرى أن نماذج الأيديولوجيا تمثل جزءا ضروريا من حس المرء بالانتماء إلى أي مجتمع. ويكون هذا الانتماء مزيفا بقدر أو بآخر، مدركا لعناصره التخييلية.
جدل حول الأيديولوجيا

يؤكد أنه يمكن القول إن سردية الأيديولوجيا تطبع الأفراد بطابع مجتمعهم، وذلك عن طريق طقوس وممارسات تؤكد (على نحو مضلل) فهْم الإنسان لنفسه ومكانته في المجتمع. وأن الاحتفاء بشعور مجتمعي شامل كالفاشية أو الشيوعية أو الثيوقراطية المعانقة لأصولية مطلقة الحدود، احتفاء قمين بتكوين الضمير الجمعي الذي يساعد الحاكم أو النخبة الممارسة للحاكمية على السيطرة وتحويلها إلى سلطان.
ويذكر أحمد برقاوي تحت عنوان “الأيديولوجيا وأصفادها” أن أيديولوجيات الخلاص الأرضي غير المرتبط بالخلاص الإلهي لا تجد لها موقعا كبيرا في عالم الشباب العربي. بل قل إن الأيديولوجيات القومية والشيوعية والليبرالية قد أخلت المكان للأيديولوجيات الدينية دون أن تنتهي طبعا من واقعنا العربي.
ويلفت إلى أن البديل عن الأيديولوجيات الكبرى ليس بديلا طائفيا كما هو حاصل في العراق، وكما هو حال الحوثيين في اليمن. ونشهد ظهور أخطر أشكال الأيديولوجيات الدينية – السياسية، كأحزاب الله في لبنان والعراق وأنصار الله في اليمن وداعش.
أما مفيد نجم، في ورقته بعنوان “سرير بروكرست العربي – جناية الأيديولوجيا على المخيلة الشعرية العربية الحديثة”، فيربط بين صعود الأيديولوجيات القومية الماركسية وشعراء الحداثة الشعرية العربية.
ويشير نجم إلى أن الحداثة الشعرية العربية التي ظهرت على يد روادها والتي كانت في جزء مهم منها تحت تأثير الشعر الإنجليزي على هؤلاء الرواد سرعان ما اصطدمت بالأيديولوجيا، وتعد علاقة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب المضطربة بالحزب الشيوعي وخلافه معه التجسيدَ الواضح لمحاولة فرض سلطة الأيديولوجيا على الشعر وعدم قبول الشاعر بالخضوع لهذه الوصاية.
ويرى حسام الدين فياض في ورقة بعنوان “أصفاد الأيديولوجيا: الشيء ونقيضه” أن معنى الأيديولوجيا تغير تغيرا كبيرا بعد الثورة الفرنسية في 1789، واكتسب مصطلح الأيديولوجيا دلالات جعلت منه في نظر الكثير من المفكرين صورة من صور انغلاق العقل على نفسه ومرادفا للوعي الزائف؛ إذ لم تعد الأيديولوجيا مجرد مجموعة من الأفكار والقيم التي تعتنقها جماعة ما وتؤثر في فكرها، وإنما صارت أيضا قيودا تكبل العقل بحيث لا يستطيع أن يرى الواقع إلا من خلال هذه الأفكار وكأنها تعبر وحدها عن الحقيقة المطلقة وتناصب العداء لكل فكر يخالفها.
فيما ينادي عبدالرحمن بسيسو تحت عنوان “كل شيء أفْكار وليس أفكارا” بضرورة أن نبتكر لـ”الأيديولوجيا” التي أغلت العقول وصفدت الضمائر وأثقلت الأرواح مصْطلحا جديدا يحتفظ بإيقاع مصطلحها هذا، ويبدل معناه إلى نقيضه، ليكون أكثر دقة في دلالته على المنطويات المفهومية التي كان لتجليات هذه “الأيديولوجيا”، الشكلية والمضمونية المتنوعة والمتضارعة، أنْ تعكسها.
قصص ومقالات

أما الملف الأدبي تحت عنوان “حاضر رؤيوي بلغة الخيال العلمي” فقد شغل ثلث صفحات المجلة، وقد كرسته “الجديد” لكاتب الخيال العلمي البريطاني ج. ج. بالارد الذي رحل عن عالمنا سنة 2009. وكان بمثابة أفضل كاتب عبّر بلغة أدبية فانتازية غير مسبوقة عن التحولات العالمية التي رافقت حقبة الحرب الباردة، من خلال قصص وروايات مبتكرة لكاتب من سلالة موازية في نزوعها الغرائبي لجورج أورويل، وقد طور تقنيات كتابية وصيغا أدبية مدهشة وعبر عن أفكاره بواسطة موضوعات مبتكرة كشفت عن خيال أدبي شديد الخصوبة والجموح في آن واحد.
ووفق شهادة للكاتب آدم ثيرلويل نشرتها “الجديد” في هذا الملف “لا تتبع قصص بالارد بأي شكل من الأشكال خيطا واحدا مهيمنا لكتابة القصة القصيرة، وأعني التقليد الواقعي المتهكم الذي أرساه كل من تشيخوف وموباسان. عوضا عن ذلك، هذه قصص فيها جرعة كبيرة من الخيال والفانتازيا. أفضل القصص القصيرة، مثلما لاحظ بالارد ذات مرة، هي قصص ‘بورخيس وراي برادبوري وإدغار ألن بو’. وبالمثل، فإن قصصه تصور عوالم تمتد إلى ما هو أبعد من حدودها الطبيعية”.
ويحتوي الملف على عشر قصص لبالارد إلى جانب حوارين معه حول أفكاره وموضوعاته وعدد من المقالات عن طبيعة عمله الأدبي. وإضافة إلى المدخل الذي قدمه مترجم النصوص الشاعر سامر أبوهواش شارك في الملف كل من آدم ثيرلويل وفانورا بينيت وترافيس إلبورو.
أما مقالات العدد فتناولت عددا من الموضوعات الفكرية والنقدية لكل من المستعرب الغرناطي خوسيه ميغيل دي بويرتا وسامي البدري والزواغي عبدالعالي ومريانا سامي وعماد القضاوي وصلاح حسن رشيد.
كما نشرت المجلة حوارين أدبيين، الأول مع الروائي الجزائري رشيد بوجدرة تحت عنوان “بورتريه للخراب”، يحكي فيه عن رؤاه للواقع الجزائري اليوم في ظل التقلبات التي يشهدها ونظرته لدور المثقف ومكانته في ظل هذا الواقع، أما الحوار الثاني فمع المترجم الأدبي التركي من العربية وإليها مصطفى إسماعيل دونمز، والحوار يفتح نافذة واسعة على العلاقة بين الثقافتين العربية والتركية.
سردية الأيديولوجيا تطبع الأفراد بطابع مجتمعهم، وذلك عن طريق طقوس وممارسات تؤكد (على نحو مضلل) فهْم الإنسان لنفسه ومكانته في المجتمع
ويرسم الناقد شرف الدين ماجدولين بورتريها فكريا للكاتب المغربي حسن بحراوي، فيما يساجل الناقد ممدوح فراج النابي الأفكار المطروحة في الملف الذي أفردته “الجديد” في عدد سابق للشاعر حسب الشيخ جعفر.
وفي رسالة باريس يتصدى أبوبكر العيادي تحت عنوان “الاستبدال الكبير” لتجليات التطرف في الفكر الفرنسي. بينما يقدم العدد أخيرا عروضا لكتب وعددا من القصائد للشاعرين اللبنانيين شادي علاء الدين وبهاء إيعالي.
وجاءت الصفحة الأخيرة بقلم الدكتور هيثم الزبيدي، مؤسس المجلة وناشرها، بعنوان “عالم التفكير الجدي وليس الخواطر” يكشف فيها من خلال تجربته في إدارة مؤسسة “العرب” الصحفية عن كواليس عالم الصحافة، مبينا أنه “كلما ضعف مستوى الكتابات عرفنا أن المشهد الثقافي في تراجع”، ولفت إلى ضرورة التعامل بشكل أكثر تجديدا مع الكتابة الصحفية والمعارف التي توفرها التكنولوجيا، داعيا إلى خلق حركة فكرية حقيقية تحرك الراكد في عالمنا