الجامعيون التونسيون ولعبة الإبداع المزيف

قد يكون الأساتذة الجامعيّون التونسيّون مهمّين في مجال الدراسات والبحوث الأكاديميّة المتّصلة باختصاصاتهم. والبعض من هؤلاء تجاوزوا اختصاصاتهم ليصبحوا فاعلين في الحياة الثقافية من خلال أعمالهم الإبداعية سواء كان ذلك في مجال الشعر أو النثر. غير أن هؤلاء ليسوا معنيين بالموضوع الذي سأطرحه، وإنما أنا أعني به أولئك الذين يعتقدون أن شهاداتهم الجامعيّة الرفيعة تخوّل لهم أن يكونوا مبدعين رفيعي الشأن في هذا المجال أو ذاك من المجالات الإبداعية. فإن لم يلفت إنتاجهم الانتباه المرجوّ من قبلهم، وعاينوا أنه لا القراء ولا النقاد أعاروه اهتماما، لجأوا إلى وسائل أخرى لفرض وجودهم كأن يستعملوا مثلا نفوذهم الأكاديمي ليطلبوا بشكل مباشر أو غير مباشر من طلبتهم كتابة دراسات نقديّة تنوّه بإنتاجهم الأدبي آملين في الحصول من خلال ذلك على الاعتراف الذي ينشدونه. فإن لم يتمّ لهم ذلك، تحولوا إلى “أفاع سامّة” بحسب تعبير مبدع تونسيّ بارز.
وفي الحين يشرعون في محاربة أصحاب المواهب الحقيقية بطرق مختلفة ومتعددة كأن يسخروا من مستواهم التعليمي وعدم حصولهم على شهائد عليا، ناسين أن الإبداع لا علاقة له بالشهائد. أو كأن ينشروا دراسات تبرز كتابا وشعراء من الصنف الرديء أو دون المتوسط لكي يتمّ التعتيم على من رسخت أقدامهم في هذا المجال أو ذاك من مجالات الإبداع أو كأن يجعلوا من كاتب مثل محمود المسعدي نموذجا أوحد للكتابة فلا أحد قادر على أن يتجاوزه ولكأن تونس لم تنجب كاتبا في مستواه.
ويحدث أن ينصرف الجامعيّون إلى نبش القبور بحثا عن مبدع قديم قضى منسيا ومهملا بهدف التعتيم على من هم على قيد الحياة. وهذا ما فعلوه ويفعلونه مع علي الدوعاجي الوجه البارز في مجموعة “تحت السور” التي لعبت دورا مهما في تحديث الأدب التونسي في الثلاثينات من القرن الماضي.. وأنا أتذكر أني التقيت في خريف عام 1983 بالروائي الكبير البشير خريف في بيته المتداعي بحيّ “تربة الباي” العتيق، وكان ذلك قبل شهرين فقط من وفاته بالسكتة القلبية. وفي ذلك اللقاء اشتكى لي بمرارة من الجامعيين الذين كانوا يتعاملون مع قصصه ورواياته بكثير من اللامبالاة، معيبين عليه اختيار اللهجة الدارجة في الحوارات. والحال أن هذا المبدع الأصيل كان قد ابتدع أسلوبا سرديّا غير مسبوق في الأدب التونسي المعاصر، مخلّصا اللغة من شوائبها القديمة من خلال الحفر في اللغة الدارجة.
لكن حالما رحل البشير خريف عن الدنيا وبادر الكاتب السوداني الكبير الطيب صالح بكتابة مقدمة بديعة لروايته “الدقلة في عراجينها” انقض عليه الأساتذة الجامعيّون ليصبح بين عشيّة وضحاها “مفخرة الأدب التونسي” بحسب تعبير أحدهم. ومؤخرا توفي الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد الذي كان فاعلا في الحياة الثقافية على مدى يزيد على الثلاثين عاما، ورغم الشهرة الكبيرة التي كان يحظى بها فإن الجامعيين لم يعيروا شعره الاهتمام الذي يستحقه عن جدارة، ولم يسمحوا له بالالتقاء بالطلبة إلا في ما ندر. بل إن البعض منهم منعوا طلبتهم في أقسام اللغة العربية من إعداد رسائل جامعيّة عن أشعاره. ولعلهم سيشرعون الآن في التنويه به على غرار ما فعلوه مع البشير خريف ومع آخرين. فكأن المبدع عند هؤلاء السادة لا يكون مهما إلا بعد أن يمضي إلى العالم الآخر.
كاتب من تونس