الجامعة وجه آخر للانقسام السياسي في تونس

خلال انعقاد ندوة حول ظاهرة الإسلام السياسي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس، اقتحمت مجموعة من الطلبة قاعدة المحاضرات رافضين تحويل منبر الجامعة إلى منصة لما اعتبروه خدمة أجندة سياسية، الأمر الذي أثار جدلا بين رافض لمثل هذا التصرف واعتباره ضد الحريات الأكاديمية وبين من يحمل المسؤولين في الجامعة مسؤولية ما آل إليه الوضع نظرا لأنه لا يمكن فصل السياسي عن الأكاديمي في مثل هذه المواضيع، خاصة لما يكون من بين المشاركين قياديون في حركة النهضة ومسؤولون في حكومة الترويكا التي يعتبرها التونسيون سبب الأزمات في البلاد.
تونس- انتظمت مؤخرا كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس (جامعة منوبة) ندوة علمية من تنظيم وحدة البحث تحت عنوان “الإسلام السياسي في تونس بين المرجعية الإخوانية والخصوصية التونسية” انتهت قبل أن تبدأ حين اقتحم مجموعة من الطلبة قاعة المحاضرات اعتراضا على مشاركة قياديين من حركة النهضة في الندوة، ورافضين لفكرة موضوع الندوة ككل.
وصل الأمر إلى حد استعمال العنف في ردة فعل أثارت الكثير من الجدل بين من أيّد ما قام به الطلبة من رافضين لاستغلال منبر الجامعة لأهداف سياسية، وبين من رأى أن في الأمر تعدّ على حرية التعبير من جهة، ودليل على استشراء ثقافة العنف بين التونسيين بمختلف فئاتهم، وفئة ثالثة تعتبر أن مثل هذه “الصدام” الأيديولوجي يحدث في الجامعات ويصل حد العنف، وللجامعة التونسية تاريخ مع مثل هذه الأحداث والصادامات بين الاتحاد العام لطلبة تونس، المحسوب على اليسار، والاتحاد العام التونسي للطلبة الموالي للإسلاميين.
وإن يرفض الاتحادان هذه التصنيفات بحجة استقلاليتهما واستماتتهما طيلة سنوات في الدفاع عن حقوق الطلبة وحياد الجامعة، يكشف ما جرى خلال ندوة الإسلام السياسي أن الصدام الأيديولوجي مازال قائما ومتغلغلا في الحركة الطلابية بل جر الجامعة إلى قلب المعارك السياسية المحتدمة في البلاد، ولعله اتخذ منعطفا أكثر جدلية في الفترة الراهنة بحكم تواجد الإسلاميين في السلطة، وما العنف إلا رد فعل من الطلبة جامعة منوبة، وهي معروفة بأنها أحد معاقل اليسار التونسي، على ما آلت إليه البلاد منذ استلموا الحكم بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي.
تحييد الفضاء الجامعي
اعتراض الطلبة جاء على خلفية رفضهم لحضور سياسيين ينتميان لحركة النهضة (علي العريض وعبدالحميد الجلاصي)، واعتبروا أن الأمر تحول بذلك من ندوة علمية إلى فرصة لتبييض طرف في الحكم، خاصة في ظل والمؤشرات التي تؤكد تراجع أسهم النهضة.
ورفع المحتجون شعار “ديقاج” (ارحل) في وجه المشاركين، وتطور الأمر إلى حالة عنف وفوضى انتهت بإلغاء الندوة، لكن لم ينتهي الجدل والغضب خاصة بعد أن قال عميد الكلية عبدالسلام العيساوي ما إنه لم تتم دعوة العريض والجلاصي إلى الندوة.
وقال مروان بن جدو، أحد الطلبة المحتجين إنهم “تفاجئوا بحضور القياديين صحبة أشخاص آخرين في الندوة دون دعوة رسمية أو إعلام مسبق (مثلما جرت به العادة)، الأمر الذي خلّف حالة من الاحتقان وطالبوهما بالمغادرة تأكيدا لمبدأ تحييد الفضاء الجامعي عن التجاذبات السياسية”.
لم تقنع هذه المبررات باحثين تونسيين استهجنوا الاعتداء على الحريات الأكاديمية، معتبرين أنها سابقة في تاريخ الجامعة التونسية التي لطالما حافظت على حرمة المحاضرات وحرية البحوث وتقول عنها إنها “خط أحمر”.
وأشاروا إلى أنه حتى عندما حدثت في الماضي صدامات بين الإسلاميين وخصومهم لم يتجاوز الأمر ساحة الكلية إلى داخل قاعات المحاضرات واقتحام الندوات وطرد الحاضرين بالقوة.
في المقابل يشكك شق آخر من الباحثين في جدوى تخصيص ندوة للإسلام السياسي التي قد تكون مساحة للترويج لأفكاره، مشيرين إلى أنه بالنظر إلى توقيت عقد الندوة وبعض الأسماء المشاركة فيها كان من الطبيعي أن يتطور الأمر ويثير كل هذا الجدل.
تدعو هذه التباينات في المواقف إلى التساؤل: هل أن إفشال ندوة علمية تديرها وحدة بحث معترف بها داخل الجامعة، يعني أنها كمؤسسة تعليمية يمكنها تكييف محتوى الندوات حسب الحساسية السياسية، أم أن المحتوى تتحكم فيه المعايير البحثية فقط؟
حماية الحريات
أجاب على هذا التساؤل عدد من الباحثين تحدثوا لـ”العرب”، اختلفت رؤاهم إلا أن أغلبهم يلتق يعند نقطة التنديد بسقوط الجامعة في فخ الأيديولوجيا، مهما كان منهلها. وفي حديثه لـ”العرب” وصف عبدالحميد الجلاصي، أحد المعتدى عليهما، ما حدث بأنه “اعتداء فظيع على حرمة الجامعة وعلى حرية البحث الأكاديمي وعلى الحرية الذاتية”.
واعتبر أن المسؤول المباشر هو مجموعة من طلبة أقصى اليسار لا تزال تعيش بأفكار مرحلة ما قبل سقوط جدار برلين. مع ذلك اعتبر هؤلاء الطلبة ضحايا. وتابع بقوله “هم ضحايا طموحات عميد الكلية استعملهم دروعا بشرية في إطار تحالفات لضمان فوزه في انتخابات العمادة القادمة. وبالتالي فما حصل من إدارة الكلية ليس عجزا عن مواجهة العدوان وإنما هو تواطؤ خاصة وأن وحدة البحث غير مرضي عنها من النظام الأيديولوجي الحاكم في الكلية”.
وبدورهم اتهم باحثون عميد الجامعة بالتواطؤ مع الطلبة وبعض الأساتذة لمنع هذه الندوة تماشيا مع قناعاته السياسية وحمّلوه المسؤولية المباشرة، في هجمة تذكر بما حدث سنة 2012 مع عميد جامعة منوبة السابق، على خلفية قراره منع النقاب داخل حرم الجامعة. وقد تحول الأمر في ذلك الوقت، الذي شهد صعود التيار السلفي، إلى قضية رأي عام.
وأوضح سامي براهم الباحث التونسي المشارك في تنظيم هذه الندوة “أن الجامعة أرادت أن تتناول ظاهرة الإسلام السياسي تناولا علميا نقديا ووقع استدعاء باحثين وجامعيين من مختلف الاختصاصات”.
وقال براهم لـ”العرب” “يفترض أن وحدات البحث للجامعة التونسية اشتغالها اشتغال أكاديمي محايد والحياد يبرز بعد عرض أعمالها للعموم للنقد يعني أن الحيادية أو اللاحيادية تثبت بعد عرض الأعمال ولا يحصل عليها بشكل مسبق كما حدث مع أشغال الندوة الأخيرة”.
يجمع مراقبون على أن الحادثة تكشف وقوع الجامعة في فخ التسييس غير أنه تسييس لا يقتصر على الجهة التي رفضت الندوة بل يشمل أيضا الجهة التي نظمتها ودعت أطرافا سياسية بعينها. وبذلك لم يعد ممكن الحديث عن أن الجامعة بمنأى عن التجاذبات السياسية ومكتفية بالبحث العلمي فقط. ويشير فريد العليبي (أستاذ جامعي) لـ”العرب” إلى أن “النشاط الأكاديمي في الجامعة التونسية يتدحرج شيئا فشيئا نحو التسييس”.
ويستشهد ببعض المؤسسات الجامعية التي عرفت أنشطة مرتبطة بقوى سياسية ومنها الندوة الأخيرة التي شهدتها جامعة منوبة، متسائلا ما معنى تنظيم وحدة البحث ندوة عن الإسلام السياسي وتوجيه دعوة لرئيس حكومة سابق ووزير داخلية سابق وهما من القياديين في حركة النهضة.
ويقول مدافعون عن الطلبة الذين أوقفوا أشغال الندوة إنها ردة فعل طبيعية نتيجة توجس عميق من مشروع الإسلام السياسي وأطروحاته أمام انخراط حزب إسلامي في الحكم واتهامه وشركائه بالفشل في إدارة شؤون البلاد. وقال أحمد نجيب الشابي، السياسي التونسي المخضرم، لـ”العرب”، إن “حادثة جامعة منوبة دليل على رفض الجموع الطلابية لرموز الحركة الإسلامية”.
تخوف من الأطروحات الإسلامية
طرحت حادثة جامعة منوبة تساؤلا عن مدى حاجة الإسلام السياسي إلى وحدات بحث وتشريح لفكره وإظهار تهافته أم أن الاهتمام به سيكون بمثابة البروباغندا تخدمه أكثر مما تضره. ويقول براهم إن “الإسلام السياسي جزء من الظاهرة الدينية التي تحتاج التناول النقدي أسوة بالجامعات العالمية”، ويؤكد أنها ظاهرة اجتماعية سياسية تحتاج الدرس لنقدها.
ويرى مراقبون أن الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية تستفيد من حضورها داخل الجامعات لإعادة ثقة الطلبة والنخب الأكاديمية فيها في ظل تزايد الانتقادات الموجهة إليها. وتسمح جلسات النقاش بتوضيح فكر تيار الإسلام السياسي والإجابة عن الأسئلة العالقة حوله وهو ما يخدم مصالح حركة النهضة في توسيع شعبيتها داخل صفوف الطلبة.
ويشير العليبي إلى أنه لطالما حاول الإسلام السياسي منذ وقت طويل وضع يده على الجامعة وكان شعار أسلمتها متداولا وبدا كما لو أن الأمر يتعلق بـ”فتح الجامعة وهو ما كان سببا في مواجهات عنيفة بين الطلبة خلال سنوات طويلة وولد انقساما بين المدرسين واليوم يقوى هذا التوجه أكثر فأكثر والإسلام السياسي في الحكم”.