الجادون والهزليون.. فئتان متناقضتان في مواجهة حياة واحدة

ينتقد الهزليون والساخرون الجدّيين، ويصفونهم بالعبوس والتجهّم تحت ذريعة أنّ الحياة جميلة وممتعة, والأجدر بنا أن نستقبلها بالضحك والابتسامات، على سبيل الاحتفاء، أو حتى السخرية من نكساتها و”مزحها الثقيل” أحيانا، أمّا الجادون فيؤمنون بأن الحياة لا تمزح، وكثيرا ما تسخر من الذين يسخرون منها، فتسدّد لهم ضرباتها الموجعة وهم في غفلة نائمون، كما أنّ العمر قصير، وليس من الحكمة أن نضيعه في الهزل والتفرّغ لاقتناص الطرائف ورواية النكت.
الاصطفاف الثنائي بين جدوى كلا الفلسفتين، قديم قدم الإنسان في مواجهة العاصفة، واحد يريد أن يواجهها مثل أبطال الأساطير، وآخر ينحني لها وينفخ في مزماره لترويض الرياح، إنه الجدل الذي مازال قائما بين صرصار يغني للحقول، ونملة تجمع القمح وتفكّر في الشتاء الذي سوف يأتي.
الهزل والجدّ، صفتان تلازمان الإنسان وحده، فالكائنات الحية الأخرى من حيوان ونبات، تعيش عمرها دون دموع أو ضحكات، تأكل وتشرب وتتناسل، تولد وتموت، دون أن تقول المراثي أو تروي النكات، إلاّ بما خلع الإنسان عليها من صفات بشرية في كتبه ومقارباته لمعضلات حياتية، لم يتمكّن من قولها بصريح العبارة فأشار إليها عبر نوادر وحكايات “ألف ليلة وليلة” و”منطق الطير” وأشعار لامرتين ورسومات توم وجيري وغيرها من الذرائع التي تحاول الانتصار لفكرة دون أخرى.
العلوم الاجتماعية والطبية والنفسية لها آراؤها المختلفة والمتضاربة أحيانا في تقييم طبيعتي الجد والهزل في الذات الإنسانية، فانكفأ فريق لتمجيد الصرامة والجدية في السلوك البشري، وأثنى المتخصصون على ما إلى ذلك من خصائص وفوائد، كالنضج العقلي والقدرة على تحمل المسؤوليات وإنجاز الفتوحات العلمية والمعرفية، لأن الحياة في نظرهم تنتمي إلى من يستيقظون باكرا، يعملون كثيرا ويتحدثون قليلا، أمّا حالات المرح فلا بأس في نظرهم من تأجيلها وفق مبدأ “من يضحك أخيرا، يضحك كثيرا”، لكنّ فريقا آخر وقف في وجه “الجديين أكثر من اللازم” ونعتهم بأنهم متجهمون بلا سبب، كما أثنى على فوائد الضحك وروح الدعابة في الجوانب الصحية والاجتماعية والنفسية، ووصف الساخرين وأصحاب النكتة بالظرفاء و”فاكهة المجالس”، لما يتمتعون به من قبول وترحاب، بالإضافة إلى الجانب الإيجابي الذي يتمتع به أصحاب الشخصيات المرحة من ناحية المردودية في الإنتاج، كما تشير بعض الدراسات.
ثنائية الهزل والجدّ ارتبطت أيضا بالمواسم في الثقافة الشعبية، وحتى النخبوية كما أشار طه حسين في مقالته الشهيرة في “حديث الأربعاء” والتي حملت عنوان “من هزل الصيف إلى جد الشتاء”، في إشارة إلى تفرغ الناس للهزل أثناء العطل والمصائف، وكأن العمل والمزاح لا يلتقيان.
الطرفة أو ما يعرف بالنكتة هي الفاصل الواصل بين الجديين الذين يصنعونها من جهة، والساخرين الذين يروونها ويعلّقون عليها من جهة أخرى، كالحادثة التي رواها الجاحظ، وهو سيد الساخرين في تاريخ الأدب العربي، وتقول الرواية إن واليا يحاول أثناء حديثه أن يطرد ذبابة عن وجهه دون أن يحرك يديه، كانت الذبابة تتنقل من العين إلى الأنف والوالي يقلّص من عضلات وجهه بتشنجات مضحكة، وهنا نكتشف أنّ الوالي صنع النكتة والجاحظ يرويها بهذه الطريقة الكاريكاتيرية الأخّاذة.
وتناقلت الصحافة، وفي سياق آخر حادثة وقوع مارغريت ثاتشر على الأرض في زيارتها إلى جورجيا، وكانت المرأة الحديدية وقتها أوّل الضاحكين، وذلك لقطع الطريق أمام المعلّقين، ولكي لا تجعل من الحادثة نكتة ومصدرا للسخرية، وبأسلوب إنكليزي حاذق ومشهود له بهذه الخلطة الساحرة بين الجدية والسخرية. العمر يمضي قطارا غير عابئ بالتوصيفات، ولا حتى بزاوية النظر إليه، فالمودعون يستوحشون لصافرته، بينما تهتز لها قلوب المستقبلين فرحا لاحتضان أحبائهم الذين سرقهم نفس القطار من عيون مودعيهم في محطة الانطلاق.
|
المازح لا تنتظره الحياة
سألنا موظفا يلقبه زملاؤه بـ”القمطرير” ـ لشدّة جديته التي بلغت حد التجهّم والعبوس ـ عن سرّ هذا الطبع وإن كان قد اختاره فأمسى لديه “طبيعة ثانية” فأجاب بلهجة شبه حاسمة “لو ولدت ضاحكا لاخترت أن أكون جديّا وحتى عابسا، ثم هل ثمة في الحياة ما يدعو إلى الضحك والمزاح، انظر إلى حواليك من كوارث، فحتى الأفلام الكوميدية التي تضحكون لها، يشقها في الأسفل شريط أخبار الكوارث والانفجارات”، وهنا قاطعه أحد زملائه بمقهى الاستراحة المجاور لمقر العمل بمزحة من العيار الثقيل، فقطع الأخ الملقب بـ”القمطرير” الجلسة وسط ضحكات زملائه وغادر وهو في قمة تشنجه، حتى دون أن يدفع ثمن قهوته، فعلّق زميله الضاحك المازح دائما “إنها طريقته لعدم دفع الحساب”.
الجديّة باسم المثابرة وتقديس العمل تنطبق على الأفراد كما المجتمعات على حدّ سواء، وقد عرف عن بلاد كثيرة، ميلها إلى هذه الطبيعة التي يراها الكثير من الدارسين سرّا من أسرار تغلّبها على الشدائد، وربما تكون صعوبة حياة الروس مثلا على مدى قرون، قد رسّخت الملامح الجادة في حياتهم اليومية وهو مجتمع معروف بطباعه الحادة، ويقول أحد العرب المقيمين في مدينة موسكو “لا تراهم يبتسمون في الصور حتى وإن طلب منهم المصور ذلك”، لكنّ زوجته الروسية ترد بقولها “عدم ابتسام الروس لا يعني أنهم شعب غير سعيد، ثم إن الروس يشعرون بأنهم غير ملزمين بذلك، وهم يستندون إلى المثل الشعبي القائل والموجود لديكم أنتم العرب أيضا “ضحك بلا سبب من قلة الأدب”، وتضيف الزوجة أولغا بشيء من التشنّج “لا تنس أنّ الروس هم الذين أعطوا العالم روائع الأدب الساخر مثل تشيخوف وغوغول والقائمة تطول..نحن نصنع النكتة ونمضي، لنجعل الآخرين يضحكون عليها”.
ويقول أحد الباحثين الأكاديميين “الابتسامة ليست بالضرورة علامة دفء أو احترام، بل إنها لدى ثقافات كثيرة دليل على أنك أحمق، وفي بلدان مثل الهند أو الأرجنتين أو جزر المالديف ترتبط الابتسامة بخيانة الأمانة”.
دراسات أخرى أثبتت أنه قد تكون هناك عوامل أخرى وراء عدم الابتسام مثل الترتيب الهرمي للمجتمع أو سيطرة الذكور عليه، فيؤثر ذلك على طرائق التعبير العاطفي التي تعد الابتسامة واحدة منها، كما أن بعض الثقافات لا تعطي قيمة كبيرة للسعادة.
مستشفيات الأطفال تلجأ لاستقدام مهرجين للترويح عنهم والمساعدة على نسيان الآلام والصمود في وجه المرض
ويرد كاتب ساخر عرف بعبوسه الدائم عن سؤالنا حول تجهمه رغم طرافة ما يكتبه “لماذا يبتسم الناس عندما يقفون أمام عدسات الكاميرا في الحفلات والمناسبات الاجتماعيّة؟ أيّ سلطة لهذه الآلة الصمّاء العمياء حين تجعلنا نتصنّع السعادة والفرح غصبا عنّا, من يذكر استوديوهات التصوير التقليديّة، يتذكّر مرآة ومشطا وربطات عنق حسب الأذواق، وربما بدلة وأحمر شفاه للسيدات، تجلس إلى كرسي الاعتراف المزيّف، يأتيك المصور ويقول لك مبتسما: أين الابتسامة؟، وكأنها موجودة ضمن الإكسسوارات التي لمحناها في محلّه، تستعير ابتسامة تحت وهج الضوء وتجلس منتظرا كبسة من إصبعه ـ لا تنس أن تردّها بعد الفقسة ـ ومرّة نسيت مشطا في جيبي ومرّة تناسيت ربطة في عنقي”.
ويرتبط عدم الابتسام في المجتمعات التي نراها متشائمة بعدة عوامل من بينها أن أفرادها يعتبرون الابتسام ضربا من النفاق، كما يعتقدون أن الابتسام للغرباء أمر غريب، فضلا عن أنّ بعض الأماكن مثل المدارس أو أماكن العمل والعبادة، تتطلب جدية تامة في التعامل، كما يرى تربويون أن من الضروري إيجاد مبرر للابتسام، وما دون ذلك يعد غباء، فضلا عن أنهم يخشون جرح مشاعر الآخرين حين يبتسمون لأن بعضهم قد لا يكون سعيدا في تلك اللحظة.
الفضول قادنا إلى إعادة زيارة الموظف الذي يلقبه زملاؤه بـ”القمطرير” في مكتبه لمتابعة الحديث عن سرّ تعلّقه بهذه الجدية المبالغ فيها، فوجدناه يضع تحت بلور مكتبه كمّا هائلا من الأقوال والحكم التي تمجّد الجديّة وتزدري الضحك والمزاح، على شاكلة “بقيت سنين أشتهي الهريسة ولا آكلها، لأن وقت بيعها وقت العمل” و“من طلب الراحة ترك الراحة” و”أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها” و”شَمِّرْ وائتزر والبس جلد النمر”، و”إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالتفكير والعمل”، والقائمة تطول بمثل هذه المقولات التي وجد زميلنا بعضها غريبا فانفجر ضاحكا، الأمر الذي أدّى إلى غضب الموظف من جديد واعتذر عن إتمام الحديث معنا.
|
الضحك نصيبنا من الدنيا وسلاحنا في الحياة
الغريب أنّ الجادين دائما، بارعون في رواية المفارقات التي تثير الضحك، لكنهم يروونها بحياد، فالكاتب الذي تحدث عن كرهه للضحك، يقول في تعليقه عن قصة الصرصار والنملة كفكرتين متضادتين “رفقا بالصرصار، هذا العازف الكسول المستهتر في نظر الحمقى والـذي تطرده النملة الرصينة المثابرة حين جـاء يـدق بابها في الشتاء وتلقنه درسا في جدوى العمل، فكرة ساذجة وباهتة بلون دفاتر الطفولة، ولكن الفنان الرقيق، عاشق الحياة، كان في الحقيقة يرثي بعزفه السنابل الصفراء قبيل الحصاد، ويشحن همم قطعان النمل الخائفة من شتاء قد لا تدركه، والمتهافتة على حبات قد يلتهمها السوس في المستودعات الرطبة، ثم ما هذا الحقد الدفين لعزيزتنا النملة، وهي تغلق الباب أْمام مستجير محتاج، ذنبه أنه تعلّم العزف ولم يتعلم جمع القمح من بيادر الآخرين”.
يقال إنّ نابليون في حملته على مصر، قد تصدّت له النكتة الشعبية قبل أي شيء آخر، فاضطر عندئذ لاستغلال الدين بقصد تحريمها، ورغم هذا لم تتوقف الأضاحيك، ويسمي الكاتب الإنكليزي جورج أورويل الدعابة والنكتة بـ”الثورة الصغيرة”.
ومع اندلاع ما بات يعرف بثورات الربيع العربي، تفجرت ثورة النكتة السياسية فأضفت عليها نكهة خاصة تنبع من رحم المعاناة، ويقول كاتب مصري إن النكتة المصرية المعاصرة تمر في حلقة زمنية مفرغة فما سخر منه الفراعنة قد نجده الآن، وينقل لنا كتاب (النكت السياسية) لعادل حمودة على لسان وزير الداخلية الأسبق حسن أبوباشا، أن مباحث أمن الدولة تجمع النكات من خلال أجهزة تحليل وقياس الرأي العام، والتي تعرض في تقرير أسبوعي على مجلس الوزراء كي تتعرف القيادة السياسية على احتياجات الشارع ومشاكله.
وفي مقاربة فلسفية لروح الهزل وعلاقتها بالحقيقة كتب المفكّر الوجودي كركي غارد “حدث مرّة أن شبّ حريق في كواليس أحد المسارح، فجاء المهرّج يخبر الحاضرين من الجمهور بذلك، اعتبروها تهريجة وصفقوا له طويلا، ولكنّه أصرّ على ذلك، فازداد الجمهور ضحكا ومرجا”، ويعلّق الباحث التونسي شريف مبروكي بقوله “أظنّ أنّه على هذا النحو سيهلك العالم ويفنى في النشوة العارمة والفرح الآسر لأناس روحيين، يؤمنون بأنّ المهزلة حقيقة”.
الابتسامة ليست علامة دفء أو احترام، بل إنها لدى ثقافات كثيرة دليل على الحماقة، وفي بلدان مثل الهند، ترتبط الابتسامة بخيانة الأمانة
يقول خميس (52 عاما) وقد تعرض في أكثر من مرة لاعتداءات من قبل متشدّدين “جاء في الأثر والسيرة: «تبسمك في وجه أخيك صدقة» وعلي بن أبي طالب يقول «روحوا القلوب فإنها تمل كما تمل الأبدان». وقال أيضا «من كانت فيه دعابة فقد برأ من الكبر»، ويضيف خميس “تربكني الوجوه العبوسة والمتجهمة أمامي حتى وأنا واقف على المنبر أثناء خطبة الجمعة، وأسعى دائما إلى تطرية الأجواء عبر رواية الطرائف الهادفة”.
تاريخ الأدب العربي يحفل بأسماء عرفت عنها روح السخرية والدعابة كالجاحظ الذي كتب عن فلسفة الضحك وأهميته في الارتقاء بالخلق وتطبيب النفوس، وكذلك ابن الجوزي مؤلف (أخبار الحمقى والمغفلين) وكتاب (الأذكياء) والتوحيدي مؤلف (المقابسات) وابن الرومي وغيرهم.
وفي بداية القرن العشرين تم الاعتراف بعلم نفس الضحك فأشار فرويد إلى فوائده كما اهتم علماء الفسيولوجيا بميزاته العلاجية، فهو يعدّ قبل كل شيء تمرينا عضليا وتقنية تنفسية ومنشطا نفسيا مزيلا للتسمم الجسدي والمعنوي، لأنه يعالج الاكتئاب البسيط والمخاوف والقلق والتوتر العصبي ويحسن القدرة الجنسية، فضلا عن دوره في إرخاء العضلات وإبطاء إيقاع النبض القلبي وخفض التوتر الشرياني وتخفيف الأرق، ويستخدمه العلماء كإستراتيجية علاجية اسمها (جيلو ثيرابي)، ويرى أديب الأشقر أنها تقوم على استخدام تقنيات استرخاء ويوغا من خلال تعلم منعكسات تنفسية وتمارين خاصة.
وفي أوروبا يلجأ عدد من مستشفيات الأطفال لاستقدام مهرجين للترويح عنهم والمساعدة في نسيان الآلام والصمود في وجه المرض، ويرى عالم الأحياء كونراد لوزنز أن قدرة الإنسان على الاستجابة ككائن اجتماعي ترتكز قبل كل شيء إلى بيولوجيته، كما يرى فرويد أنّ قوة النكتة تكمن في هدفها فيتم اكتشاف الأفكار اللاشعورية لدى أي شخص من خلال تحليل ودراسة ما يضحكه.