الثلج والقطار
كنا، أبومحمود وأنا، قد آوينا إلى الدفء في مطعم روسي تحف به الثلوج المتهاطلة. كانت الصالة خافتة الإضاءة، فيما تنبعث من إحدى الزوايا موسيقى آسرة، مع صوت مغن هاو يؤدي أغنيات بصوت يهدّئ نفس من لا يفهم الروسية.
وبينما كان العبد لله يتأمل ملامح المغني، وإذا بسيدة في خريف العمر تتقدم منه وتهمس في أذنه مع إشارات باليد تنُمّ عن رجاء. سرعان ما اتضح أن السيدة طلبت أغنية بعينها. فما هي إلا لحظة حتى بدأ العزف حزينا مع صوت شجيّ، وبدت حشرجات السيدة لافتة. لعلها استذكرت حبّا ضائعا أو خيبة كبرى!
أبلغني أبومحمود همسا أن “الثلج والقطار” هو عنوان الأغنية. سرعان ما انتزعت مفكرتي من جيبي وقلمي من غمده وطلبت منه أي مقاربة للمعاني ولو بالعامية. فهو ممن توغلوا في الروسية حتى نسوا من أي مرفأ للغة العربية قد أبحروا!
شابٌ وفتاة جمعتهما المصادفة في عربة قطار يقطع مسافات تبدو لانهائية. جرى الحديث بينهما سلسا مستفيضا، فيما القطار يشق طريقه وسط الثلوج. القطار يندفع والأفق يتحرك دون أن يُعيرهما المتناجيان اهتماما.
كانت الخمسمئة كيلومتر الأولى أكثر من كافية لأن يقول أحدهما للآخر كلاما يزيد عن كل ما نطق به طوال حياته، فأحس كل منهما بأنه يعرف صاحبه أكثر مما يعرفه أبوه أو أمه.
ومع تبدّلات الأفق وصل كلاهما إلى وضعية الإعجاب ثم إلى الحب الذي توغل عميقا. غير أن البنت ربما كانت لئيمة، إذ قالت كل شيء إلا الإفصاح عن محطة نزولها، كأنها أضمرت مفاجأة الشاب في اللحظة التي “تخلع” فيها من العربة ومن القطار كله، تاركة للطرف الآخر الذكرى والأمنيات.
ولعل صدمة هبوطها إلى أرض مثلجة بعد آمال الصعود إلى ذرى الغرام الساخن، قد أدخلت الشاب إلى حال من الهذيان، فاغترف المخيال الروسي من الصورة، أغنية حزينة بلسان خائب الرجاء أداها المطرب يوري شاتنوف:
هبط الثلج مُسرعا مثلما كانت قصة وجودك في حياتي. هو مثلك كأول حب يا “آنيا”.. حبٌ سريع وخاطف. وما عليّ إلا أن أنسى نظرتك الصيفية. وعندما يأتي الدفء، ستنسيني أنت أيضا. افهميني رجاء: أنا لست مذنبا لأن ثلجنا الأول قتل الورود. ما أشبه هطول الثلج الأول بحبنا الأول. هو مثل حبنا الأول.. نعم، مثله أقبل وأدبر. إن هذا الثلج، يقينا، هو الغبي الأول، الذي سيغطي الأرض ويغطي حبنا الأول!