الثقافة وبيئاتها

يصعب طرح أي شرح محدد وموجز لمصطلح الثقافة الذي نستخدمه بمناسبة وبغير مناسبة، عند المديح أو في المجاملات أو بتأثير سماع قول أو رأي صاغه أحدهم بعناية. فمن حيث المبدأ، يمكن التقصي عن معاني الثقافة داخل المعتقدات والتقاليد التي نتقاسمها مع القريبين منا الذين نشعر أننا مرتبطون بهم من خلال أواصر قوية، ونعتبرهم نظراءنا. وهذا الفضاء هو الذي يمدنا بالمنظار الأول الذي نرى من خلاله العالم، ونصوغ العموميات اليقينية التي نواجه بها كل أولئك الذين يدافعون عن وجهات نظر مختلفة!
مصفاة المعتقدات والتقاليد والقيم المشتركة تشكل محصلة هذا الاختراع البشري المدهش الذي نسميه ثقافة، وتتميز به كل أمة عن سواها في حالي الانغلاق والانفتاح. ولعل أولى وسائل اختبار جودة أي ثقافة عند أي مجتمع هي فحص قدرته على التسامح، وهنا تكون الجودة في حاجة إلى براهين!
إن هذا هو الأمر الذي يستحق أو يؤخذ بعين الاعتبار لمعرفة مدى صلاحية أي ثقافة للاحتكاك بغيرها من الثقافات والأمم الأخرى. ومعلوم أن المقاصد المعلنة، عن السياقات التربوية والتعليمية، تتحدث دائماً عن ترياق مطلوب وفعال ضد حُمى الخوف من الآخر، وخطأ تنميطه سلباً على أساس الدين أو اللون أو العرق. فكل مجتمع هو مخزن للفضائل، أيا كانت سمات تيارات اجتماعية متخلفة داخل هذا المجتمع نفسه. بالتالي فإن أسوأ المتعصبين وغير المتسامحين هم الجهلة.
لدينا ثلاثة معانٍ متصلة يتميز بعضها عن بعض. فالثقافة في المقام الأول هي المسار التربوي في اتجاه النُضج الفردي، وهذا – بالمناسبة – يتلاقى مع جذر اشتقاق أصل الكلمة وهو “الزرع” في اللغة الإغريقية، كما فسر شيشرون خطيب روما القديمة وكاتبها السياسي. وهذا الزرع يختلف من بيئة إلى أخرى.
ثانياً، يُعرف مدى جودة الثقافة من خلال الأعمال والنظريات العلمية والمنجزات الفكرية التي أثمرها العقل البشري في كل مجتمع. ولدينا من منجزات الأعمال في مصر القديمة الأهرامات والتماثيل والجثامين المحنطة وغيرها، التي حاول أن يقابلها ضخامة في العصر الحديث مركز روكفلر من 19 بناية شاهقة في حي مانهاتن في قلب نيويورك. وفي التاريخ القديم لشعوب بلادنا العربية هناك الكثير من فضائل النظريات والاختراعات التي دلت على تكامل العقل الإنساني في كل مكان ومن أي ثقافة. ولدينا النظرية الهندسية التي خرج بها عقل اليوناني فيثاغورث، الفيلسوف القديم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. فليس أمراً بسيطاً أن يتمكن العقل في حقبة الطفولة البشرية من تكريس قواعد هندسية لا تخطئها الممارسة الرياضية، كالقول: في المثلث قائم الزاوية، يكون مربع الوتر يساوي مجموع مربع الضلعين الآخرين. كذلك لدينا نظرية النسبية في الفيزياء التي طورها في العام 1905 ألبرت آنشتاين عن مبدأ “النسبية” الذي أرساه العالم الفلكي الإيطالي غاليلو في القرن السابع عشر الميلادي. كذلك في الشعر كانت “الكوميديا الإلهية” التي أطلقها من فلورنسا الشاعر الإيطالي دانتي أليغيري. إن كل تلك الإنجازات وغيرها كثير، توالت على امتداد قرون وانبثقت عن مجموعات بشرية، ونشأت فيها أدوار ألمعيين نذروا أنفسهم لتحسين جودة حياة البشر أجمعين، وكان للمجتمع العربي ومن دخل أجواءه السلطوية، ابن خلدون في علم الاجتماع (القرن الرابع عشر) وفي الشعر المتنبي (القرن العاشر) فضلاً عن غير أسماء وغير مجالات.
السؤال الآن، ماذا في وسع الثقافة في العالم العربي أن تنتج وتسهم في الحضارة البشرية، بينما التعليم نفسه يتردى في معظم البلدان؟