التوتاليتاريا الجديدة

الخميس 2017/08/24

اجتاحت القرن العشرين أنظمةٌ شمولية كانت كلها تنطق عن طوباوية تزعم قِيادَ البشر إلى عالم مِلؤه السعادة والرخاء، قبل أن تتكشف عن رعب فظيع وسياسة مبرمجة لإخضاع البشر والتصرف في مصائرهم وسحق المنفلتين من العقال. ورغم أن البشر تخلصوا من التوتاليتاريا في وجهها المرعب، فإنهم لا يزالون يشهدون محاولات أخرى لتغيير العالم، بدعوى أنه غير مكتمل على الوجه المرضي، تقودها توتاليتاريا جديدة هي “ما بعد الحداثة”.

في كتابها الجديد “كراهية العالم” تؤكد الفيلسوفة الفرنسية شنتال ديلصول أن “ما بعد الحداثة” هي وريثة توتاليتاريات القرن العشرين، فهي لا تعتني بالعالم عناية بستاني يعرف حدوده، بل تسعى، كخالق بالمعنى الأفلاطوني، إلى خلق عالم خال من العيوب، انطلاقا من مبدأ “كل شيء ممكن”، ومن رغبة صبيانية بإعادة صنع طبيعة الإنسان، بإلغاء الموت والألم، وإلغاء مشاكل النهايات، والقضايا الميتافيزيقية.

لم يقع نبذ الشيوعية والنازية بسبب الرعب الذي نشرتاه فقط، وإنما أيضا، وأساسا، بسبب ما حاولتا تطبيقه، فالشيوعية سعت إلى التفتح، فجهدت بإفراط وتحريف إلى تحقيق الحداثة؛ فيما حاولت النازية العودة إلى التجذر، فجهدت بإفراط وتحريف هي أيضا إلى إلغاء الحداثة. أما “ما بعد الحداثة” فقد اعتبرت التجذر شرا والانفتاح خيرا، والحال أن البشر في حاجة ماسّة إليهما معا. وما توقها إلى خير الإنسان على حدّ زعمها، ورغبة انتزاعه من الشر، إلا محاولة لاجتثاثه من الواقع، لكي يبلغَ التفتحَ التامَّ في عالم متخيل، وبذلك تُحلّ البروميثيوسية المحرّفةُ محلّ الميتافيزيقا عن طريق التاريخ، وتُعوّض الطبيعة بالثقافة.

وفي رأي ديلصول أن ما لم تحققه التوتاليتاريات بالرعب، تعتزم “ما بعد الحداثة” الحصول عليه بطرق أخرى، إذ توجه سهامها إلى مجموعات أفراد تصورهم على أنهم قامعون ظالمون، والحال أن دورهم الأساس هو ضمان العلاقات بين البشر. فإذا ما انفكت الروابط الخاصة لتحقيق الحرية الفردية، حضرت المؤسسة الدولية لتعويض التضامن المحظور. عندئذ يجد الفرد، المشمول داخل الكتلة، نفسه وحيدا في مواجهة الدولة، فلا يلعب عندها دورا، بل يؤدي وظيفة. فإذا ما تحول إلى مجرد فرد، أصبح متعاوضا، أي يمكن تعويضه بفرد آخر في أي لحظة، فتزول بذلك الفوارق بين البشر وتكاملهم مع بعضهم بعضا، ذلك التكامل الذي من دونه لا يقوم رابط ولا مجتمع.

تقول ديلصول: “نحن نحتاج إلى زمن للتفتح، كما تحتاج الأزهار للزمن كي تنبت وتزهر. عندما يستهين “الخالق” (بالمفهوم الأفلاطوني دائما)، بالزمن ويدعي السيطرة عليه، يتحول إلى غاصب ودعيّ ومغرور”. وتلك سمة ما بعد الحداثة.

كاتب تونسي

15