التواصل الافتراضي يفتح أفواه الشباب عن المسكوت عنه في مجتمعاتهم

جيل يتخذ من الجرأة وسيلة حيوية للمعرفة ووقودا للتغيير ومناقشة القضايا الشائكة.
الأحد 2019/11/24
منبر للتعبير

يسعى قطاع كبير من الشباب في المجتمعات العربية إلى كسر حلقة السكوت في مواضيع مثلت محرمات متوارثة وظلت خطوطًا حمراء يصعب الاقتراب منها والحديث عنها في العالمين الحقيقي والافتراضي، مع نظرة جديدة تعتبر بنود قائمة الممانعات التقليدية سببًا مباشرًا في مشكلاتهم. ويؤمن هؤلاء بأن كسر جدار المحظورات شرط للتطور، فلم يعودوا مجبرين على الاستمرار في حماية أفكار صنعتها أجيال سابقة لا تحقق التعايش الحر بسبب الاختلاف، وتفتح تأويلاتها أزمات متعددة.

لم يعد الشبان العرب يجدون غضاضة في الحديث عن العديد من المواضيع التي اقترنت بمفهوم التابوهات والمحرمات التي لا يجب إثارتها والنقاش حولها؛ تداول الكثير منهم مؤخرا خبر افتتاح “متحف المهبل” بلندن الشهر الحالي وتمت مقارنته مع متحف آخر لأعضاء الذكور بأيسلندا رغم حساسية الحديث عن الجنس عربيًا، ودخلوا في حوارات تضع الأمر ضمن سياق معرفي بحت لتغيير التصورات الخاطئة عن أعضاء المرأة التناسلية ورفع وصمة العار التي تحوم حولها، تحت شعار “لا خجل في العلم”.

واكتسب الشباب من خلال النهم في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي جرأة أكثر بنقل أشد القضايا خصوصية للنقاش على أرض الواقع انطلاقا من تدوينات أو صفحات ومواقع معينة، لتستضيف مقاه في وسط القاهرة جلسات شباب من الجنسين يتناولون العديد من المواضيع ولا يجدون حرجا في الحديث عنها، وتظل المسائل المرتبطة بالجنس من أكبر المحرمات في مختلف المجتمعات العربية لكن شباب اليوم يتجرأون على طرح مسائل مثل تصورات الجنس الخاطئة وأمراض الذكورة والأنوثة علانية.

ويؤكد هؤلاء أن الجرأة والخوض في القضايا الشائكة سلاحهم الوحيد الذي يملكونه لمواجهة تحجر الأفكار وللمزيد من المعرفة والاطلاع واكتشاف آراء وتصورات أطراف أخرى في المشاغل التي تؤرق تفكيرهم وكذلك السعي لتغيير نظرة المدافعين عن موروثات خاطئة، فبعض الأسر مثلا لا تقبل تحميلها مسؤولية شذوذ سلوك الأبناء، رغم أن تطرف الأبوين الديني أو أخطائهما التربوية بأساليب عنيفة وغيرها قد تدفعهم نحو أكثر السلوكيات شذوذا وقد يتجهون نحو الإلحاد. والقسوة وسوء معاملة الطفل، أو المراهق، ربما يغيران هويته الجنسية ليميل إلى التشبه بالفتيات مثلا، ويصبح متهما رغم أنه في الأصل ضحية للكبار، هذه المواضيع وغيرها لا يمكن نكران وجودها في مجتمعاتنا العربية لكن غالبا ما لا يتم الحديث حولها وطرحها كقضايا رأي عام.

وفي مقهى بميدان باب اللوق في وسط القاهرة، يتذكر محمد عطية (25 عامًا)، نقاشًا حادًا أثير بين رفاقه حول قضية تحرش وقت أزمة استبعاد اللاعب عمرو وردة من المنتخب المصري لكرة القدم في يوليو الماضي، والموقف الذي انتاب عامل المقهى المسن، حينما التقطت أذناه كلمات فتاة تحدثت عن الجنس بمنطق غريزي بحت.

كاد عامل المقهى يقلب طاولة المشروبات حينما سمع الفتاة تتحدث عما تبثه الأفلام الإباحية من محفزات للشباب لتثير غرائزهم وطرحت تأثير ذلك على طيف واسع منهم، خصوصًا لدى قليلي الثقافة، فيلجأون إما إلى العادة السرية أو إلى التحرش بالفتيات دون النظر لملابسهن أو أشكالهن، فالمهم أنها أنثى وهذا يكفي.

المدافعون عن المحرمات يعانون من اِزدواجية بين ما يظهرونه وبين رغباتهم الحقيقية، وحاجتهم إلى إثارة بعض المسائل

ويكشف موقف الرجل من حديث فتاة عن مواضيع جنسية حساسة تمس جل المراهقين والشباب اعتباره أن ذلك ممنوع وهذا نوع من المحظورات التي لا تزال عالقة في ذهنه الذي يضع حدودا لا يجب أن تطرقها الفتيات، على الرغم من أنه يعمل في مقهى يقصده مثقفون ويشهد أشعارا عن الحب والوصف الحسي للمحبوب، لكن الحديث عن الجنس من عنصر نسائي غريب عليه ولم يتقبله.

يقول عطية، لـ”العرب”، إن الشباب باتوا أكثر تفتحًا وتفهما في ما يتعلق بمناقشة القضايا الشائكة من منظور جاد أو تناولها بمنطق موضوعي، وممانعة الأجيال القديمة مفهومة في ظل اعتبارها لبعض التقاليد والحدود المفروضة من خلالها عناصر من هويتها الثقافية.

ويظل الحديث في بعض المجتمعات العربية عن العلاقات الجنسية مباحًا للشبان متبوعًا بفاصل من الضحكات والتعليقات الكوميدية البذيئة، ولا يقبل من العنصر النسائي، وحتى في ساحات القضاء أثناء النظر في دعاوى الخلع المرتبطة بأمراض جنسية للرجل تكتفي المرأة دائمًا بعبارة واحدة فقط “أريد أن أطبق شرع الله”، في إشارة إلى عجز زوجها الجنسي.

ولا يبالي الكثير من الشباب الآن باتهامهم بخدش الحياء، ويعتبرون أنفسهم متصالحين مع ذواتهم فما يناقشونه في العلن تم تداوله في الجلسات المغلقة لأجيال الآباء والأجداد، ولا يوجد منهم من لم يتحدث فيها ولو خلسة وفي دوائر ضيقة أو طرح تساؤلات حولها أو أراد مناقشتها مع أقرانه.

ويلفت البعض من الشباب إلى أن المدافعين عن المحرمات والتابوهات يعانون من ازدواجية بين ما يظهرونه أمام الناس وبين رغباتهم الحقيقية، وحاجتهم إلى إثارة بعض المسائل التي تمسهم مباشرة وتؤثر على حياتهم اليومية وربما على حاضرهم ومستقبلهم.

ويتحاشى الكثير من المعلمين والمعلمات شرح مقررات دراسية عن الجماع بسبب الخجل من الخوض فيها بوجه عام أو لتفادي التعرض لأسئلة محرجة لا يستطيعون الإجابة عنها، ويطالبون الطلاب بحفظها كما هي من المقرر المدرسي، أو بالبحث على الإنترنت عن المعلومات التي لا يفهمونها.

وأبدت شيماء علي (27 سنة)، في حديثها مع “العرب”، سعادة كبيرة بنقل النقاشات الافتراضية من مواقع التواصل الاجتماعي إلى الواقع، مثل أعضاء مجموعة “باد ماميز” التي تم تأسيسها كمتنفس للسيدات للخروج من التزامات المنزل، وبدأن بعدها في تكوين صداقات حقيقية والتجمع في النوادي أو مقاه خاصة بالسيدات للنقاش في قضايا شديدة الخصوصية.

العالم الافتراضي فرصة للتحرر
العالم الافتراضي فرصة للتحرر

وباتت أحاديث الفتيات لا تركز فقط على المواضيع البسيطة المتداولة مثل كيفية طهي أصناف الطعام أو أماكن شراء مستلزماتهن الرخيصة من المكياج والملابس، وإنما انتقلت إلى الحديث عن العنف في العلاقة الحميمة وكيفية مواجهته والاغتصاب الزوجي، والتصدي له والدفاع عن النفس إزاء المتحرشين وكيفية تعليم الصغيرات الثقافة الجنسية، ثم إلى حقوق المرأة وكيفية الوصول إليها سواء في البيت أو في العمل أو في المجتمع.

وساهم اهتمام بعض المواقع الإلكترونية بالبحث عن متابعين ومعدلات قراءة مرتفعة، في تحقيق الانتقال السلس لقضايا الشباب بين العالمين الافتراضي والواقعي، حيث تتناول قضايا تجذب القراء والمتابعين وتحقق رواجًا بين القراء بمختلف أعمارهم وثقافاتهم وتفتح نقاشات واسعة.

وقبل أعوام، تم تدشين موقع على شبكة الإنترنت بعنوان “الحب ثقافة” ليصبح منصة نقاش لأمور الحب والجنس والزواج، ويقدم معلومات طبية حول الصحة الإنجابية واستشارات زوجية ونفسية برسوم توضيحية وفيديوهات قصيرة، واستطاع جذب مليون و250 ألف متابع على فيسبوك.

ولا تتوقف التابوهات التي يطرقها الشباب عند حدود الجنس، فهم يولون أهمية كبيرة لمواضيع التراث الديني ويرفضون القدسية المطلقة التي يتمتع بها بعض الدعاة المشاهير، ويبدون تأييدا لشخصيات مثيرة للجدل، مثل إسلام بحيري وإبراهيم عيسى وخالد منتصر، لمجرد أنهم يدعون إلى إعمال العقل والابتعاد عن النقل.

وأشار محمد سالم، 37 عامًا، لـ”العرب” إلى أن تنقية التراث الديني وأفكار الرموز الدينية ضرورية لمواجهة المرتكزات الفكرية للحركات المتشددة التي تكملها تصورات قائمة، مثل اعتبار المتطرفين النساء جواري يجوز بيعهن وشراؤهن، وتتماشى مع رؤية خاطئة منتشرة في المجتمعات المغلقة وتعتبر المرأة مخلوقا لإمتاع الرجل ووعاء لإنجاب الأطفال وغيرها من الأفكار المتطرفة والبدائية.

ويعترف مختصون نفسيون بأن جرأة الشباب على طرح القضايا أوجدت ثقافة عامة لمسوها في الحالات التي ترد إليهم، فكثيرًا ما يزورهم مقبلون على الزواج مصابون بهزات نفسية، أو يسألون عن المشروعية الدينية للعلاج بالهرمونات لمن يعانون تأخرا في البلوغ وغير ذلك من المشاكل النفسية التي تعترضهم في حياتهم والتي كانت الأجيال السابقة تستحي من الذهاب إلى طبيب نفسي لمعالجتها.

أوضح الاستشاري النفسي، جمال فرويز، لـ”العرب” أن تداول المعلومات المتعلقة بالثقافة الجنسية والدينية لا يخلو من ذاتية مقدميها، خاصة إذا كانوا غير متخصصين. وتطالب شريحة من الشباب بضرورة تغيير منظومة القيم في ظل التطورات المتلاحقة، فلم يعد مقبولا أن يتم اتهام روائي بإثارة الفاحشة لأنه سمى الأعضاء التناسلية بمسمياتها الشعبية التي تمتلئ بها شبكات الإنترنت، ولم يعد مقبولا أن ينصّب البعض نفسه حارساً على الأخلاق في مجتمع يعاني من هزات عنيفة تقتضي توصيف الأزمات بأسمائها بدلاً من مداراتها.

19