التناغم بين الفن والتراث: استرجاع لذاكرة الفنانتين أمل الميساوي وإيمان المعلول

ما الذي يجعلنا نميّز إبداع الفنانتين التونسيتين الناشئتين أمل الميساوي وإيمان المعلول، فيدفعنا نحو الوقوف بذهول وبعقل متمعن أمام أعمالهما؟ ألأنهما تخاطبان فينا جوهر التراث لتذكراننا بالأصل، بنفس الفنان وتمنياته، أم لأنهما تأخذاننا في رحلة مميزة تترجم لذة خالصة من المتعة البصريّة.
يُعدّ التراث مصطلحا حديث العهد نسبيا، تختلف مفاهيمه باختلاف الهويات الجماعية، فالمعنى يختلف من لغة إلى أخرى. مصطلح هو من المنظور اللغوي يعني الإرث الأبوي، والذي يمكن اعتباره غير دقيق ولا يتطابق مع ما نقصده بالتراث في اللغة العربية. والمصطلح الأقرب والأنسب والذي يتماشى مع المقصد في العربية، مصطلح “cultural patrimony” أي الإرث الثقافي، والذي يعتبره محمد العابد الجابري “كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي سواء ماضينا أو ماضي غيرنا سواء القريب أو البعيد“.
ويمكننا القول إنّ التراث هو إرث يَنْتقل من جيل سابق إلى جيل لاحق، فليس التراث مسألة ماضٍ مضى بل راهنٍ ومستقبل، يُلخصّه عفيف بهنسي في كتابه “الفن الحديث في البلاد العربية” ليعتبره: “العطاء القومي الحضاري المتزايد الذي يتجهّز به الإنسان في مجتمع من المجتمعات لخوض غمار المستقبل، وهو دائم ومتنامي ولا يرتبط بمرحلة واحدة من مراحل التاريخ”.
التراث بمثابة المُنطلق في ابتكار أعمال فنيّة تجمع بين ثنائيتي الأصالة والمعاصرة، تُترجم التراث بلغة تشكيلية، من خلالها يسترجع الفنان الذاكرة الفرديّة وحتى الجماعيّة، أعمال هي تجلٍ لبصمة شخصيّة تعكس الهويّة الذاتيّة، وتوليفة بين الفن والتراث نجدها تَكشفٌ عن ذاكرة لها خصوصيتها، أعمال هي رجع صدى لصور تتتالى في الذاكرة واستعادة للحظات رُسّخت من الماضي حتى تكون مصدر إلهام لذات الفنان وممارسة فعله الإبداعي، يعتبرها الحبيب بيدة “الأساس في كل عمل فني إبداعي“.
في هذا الإطار تتنزل تجربة الفنانتين التونسيتين أمل الميساوي وإيمان المعلول في شكل معرض ثنائي تحت عنوان “إيقاعات من الفن والتراث” آخر شهر أبريل الماضي.
تجربة تصويرية بامتياز احتضنت موضوع الفن والتراث، تغذت من الكم الهائل من صور الذاكرة التي هي تعبير عن الهوية الفرديّة عبر فعل التذكّر والهويّة الجماعيّة عبر استعادة المتلاشي- المندثر، تراث كان مصدر إلهامهما ليكون استرجاعا للذاكرة، وكان بمثابة محاولة لتحيينه دون السقوط في المحاكاة وإعادة تصوير الواقع. تجربتان اجتمعتا تحت ظل موضوع التراث لتتفرقا عند تجسيد الفعل التشكيلي والطرح المفاهيمي، تتشابهان لتختلفا اختلافا وليد الذاكرة الخاصة والموضوع المُراد طرحه.
تحيين التراث
على حدّ تعبير الفنانة أمل ميساوي: “نحن نعتبر أن من مهامنا التوقف عند هذا التراث ومحاولة التفكير في تحيينه دون السقوط في المحاكاة أو البحث عن مشابهة ومطابقة الواقع باعتبار أن العمليّة الإبداعية لا تقوم على نقل الواقع بل على إعادة تمثله”.
هي تجربة إبداعية لازالت في بدايتها، تقدّم لنا الكثير، جمعت فيها كل فنانة الفن بالتراث ببصمة خاصة تميّز الواحدة عن الأخرى. تراث بلورته الميساوي أولا في استحضار المكان “التراث المعماري“ تحت عنوان “برج خديجة بين الواقع والخيال“.
برج تاريخي مُطل على البحر يقع في مدينة الشابة، مكان نشأة الفنانة أمل الميساوي. مكان يشكل ذاكرة الفنانة البصريّة بيّنته في لوحاتها مُكتسحا النصيب الأوفر فنجده منتصبا انتصاب الهمزة، ليس مجرد مكان عيش وإنما هو مكان يعيش في الوجدان جسدته الفنانة عبر صور الذاكرة دون أن تحتاج العودة إلى الأصل لإعادة تمثيله لهذا كان العمل متراوحا بين ثنائيتي الواقع والخيال، الواضح والضبابيّ، ثنائيات أنجزت بثنائيات من التقنيات التشكيلية بين الخطي والتصويري فالحار والبارد، التصوير والكولاج.
في اللوحة نجد حضورا مكثفا للون البارد “الأزرق” موزّعا بين الأعلى والأسفل يوحي بامتداد في الأسفل بالأسود ليرمز للتجذر والحضور الفعلي في التاريخ، ويكون ممتدا نحو السماء وكأنه شامخ يطلق العنان، يتوسطهما البرج بين الوضوح والضبابية بألوان حارة توحي بِدفء المكان، برج يتّضح يمنة ويسرة ليصبح أكثر ضبابية في المركز، وكأنه تخليد لصورة من الحلم ضمن عوالم خياليّة تجريديّة يتكرر بين الآونة والأخرى، ليطال التكرار؛ تكرار البرج في اللوحة أكثر من مرّة، وكأنه سرد لتكرار فعل التذكّر والحنين للأصل.
إنه تذكّر للذاكرة الفرديّة من حيث رؤية الفنانة الخاصة وذكرياتها مع المكان وللذاكرة الجماعيّة من حيث أن المكان تعبير عن تراث وحضارة أهالي الشابة. تذكّر أعادت الميساوي تكراره في لوحة تحت عنوان “أصداء من الذاكرة” وهو عمل أضافت فيه الفنانة عن اللوحة السابقة، لذكر العنصر الحيواني والذي ربما هو تعبير عن الرصيد البحري الذي يميّز منطقة الشابة، حيث اكتسح تكرار الأسماك بتقنية الحفر والطباعة على أكبر مساحة في اللوحة والتي تضاهي النصف تقريبا.
أسماك تتوسطها شخصيّة خيالية أسطوريّة تغوص في التصورات السريالية للفنانة، تعبر عن ذاكرة جماعية وكأن الفنانة هنا تتكلم بالألوان والأشكال لتقرّ بأن للأسطورة جذورها. شخصية جُمع فيها الحقيقي بالأسطوري فالواقعي بالخيال والمنطقي باللامنطقي، هي من الأعلى تصوّر لامرأة شابة نصفها السفلي أصابع أخطبوط، تجعلنا ننظر للنصف العلويّ من اللوحة والذي تتشارك فيه جلّ اللوحات.
هنا تخطر في أذهان الزائر عدة تصورات: أتكون للنصف السفلي من اللوحة – تحديدا الشخصية السريالية – علاقة بالبرج؟ ألا يكون الجمع بين الحضور البشري والحيواني تجل للذاكرة الشعبيّة بذلك تكون الميساوي قد استحضرت الأميرة خديجة من التاريخ لتستضيفها في لوحاتها؟
أجواء سريالية هي طريقة تعبير اعتمدتها الميساوي لتكون استحضارا للتراث المعماري والحكاية الشعبية فخلق توليفة بينهما، فتتشارك هذه اللوحة مع لوحة “حوار الذاكرة والأسطورة” مع تغيرات بسيطة على مستوى مكان الأسطورة حيث رُفعت إلى الأعلى لتحيد عن التجذر إلى الإبحار في الفضاء نحو الاندثار.
تصورات ذاتية
أما إيمان المعلول فاستحضرت التراث بتصورات ذاتيّة وضمن معالجة تشكيلية شخصيّة التجأت فيها إلى التراث الشعبي وإحياء قيمة حرفة صناعة الفخار التي مازلنا نراها اليوم. وهي حرفة أساسها الحذق اليدوي الذي نافسته الآلة والتكنولوجيا فكان مآلها التلاشي. حرفة جسدتها المعلول في لوحة “حرفة من الذاكرة” وهي لوحة بمثابة استرجاع التراث الحِرفيّ وحِرفة صناعة الفخار، استعارة من الحِرف الشعبية التي يرتكز عليها تراثنا.
جسدت الفنانة في هذه اللوحة تصوّرا لرجل عجوز يحمل بين يديه قلّة فخاريّة يرتدي ملابس من التراث التونسي الجبّة والشاشيّة وبلغة بمثابة النعل، متكئ على حافظة قلال، وأوان فخارية في خلفها زخارف من النقوش العربية قدّت عبر التكرار المفردي. هو تصوّر للحِرفيّ أثناء الزمن الجميل، ضيف حضر في لوحة المعلول تعبيرا عن الذاكرة الجماعيّة لأهالي تونس وربما حتى الفرديّة ليكون صورة ترسّخت في ذاكرة المعلول عند زيارتها للحرفيين في مدينة صفاقس وترعرعها بينهم.
ذاكرة الفنانة حضرت أيضا في لوحة ” زخم حرفي“ لتُجسّد عبر لقطات من صور الذاكرة: الحِرفة. لوحة تشخيصيّة تجمع الحِرف بحضور نسائي ورجاليّ مكثّف لتنفتح على مشهديات ربما متتالية لتكون بمثابة تسلسل للحِرف وكأنها شريط سينمائي من إبداع ذاكرة الفنانة. الحضور النسائي كان تعبيرا عن مكانة المرأة منذ التاريخ، وكأن إيمان هنا تعلمنا بإيمان المرأة بتفوقها في السوق. مشهديات بألوان ترابيّة هي تعبير عن دفء التاريخ وهدوئه، هدوء وأمانة نفتقدها في سوقنا اليوم.
◙ تجربة تصويرية احتضنت فيها الفنانتان موضوع الفن والتراث وتغذت من صور الذاكرة التي هي تعبير عن الهوية الفرديّة
هذه الصورة هي حديث عن مكانة البلاد التونسية عامة فصفاقس خاصة ووفرة وتنوّع الحرف فيها ثم وصولها إلى أوجها في فترة زمنيّة. راوحت فيها المعلول بين الحضور الفعلي والغياب وبين المكتمل واللامكتمل ثم بين الواضح الجليّ والضبابيّ. لوحة هي تعبير صريح عن الوجود والتلاشي للحِرفة اليدوية والحِرفيّ، تظهر من خلالها إيحاءات باللغة العربيّة أساسها الجرائد لتُخبر ربما عن اكتساح الآلة للسوق ومنافستها للحِرفة اليدويّة.
اللوحة لا تختلف كثيرا عن لوحة أخرى بعنوان “أياد مُبدعة” والتي فيها نوع آخر من الحِرف، نجدها تحمل نوعا من “الاحتشاد المشهدي” فيها تداخل بين الشخوص والأشكال وتتآلف لتصبح واحدة رغم تجزئها. لوحة حضرت فيها أقوال شعبيّة وخواطر فخربشات عربيّة خلقت علاقة بين ثنائيتي الصُّدْفَوِي والقصدي، تأخذنا عبر الزمن لتذكرنا بدولاكروا وملاحظاته السريعة على اللوحات وفي مذكراته، حضرت فيها خامات ورقيّة من جرائد وربما حتى كُتبا كانت بمثابة أرضيّة خصبة للخروج عن إطار اللوحة المعتاد بإنجاز عمل “مذكرات الصنائع الشعبيّة“.
عمل الفنانة هو بمثابة تحدٍ للخروج عن المألوف، تعبير عن التراث بطريقة معاصرة في جنس فني جديد، تنضيدة إن صحّ التعبير. تنضيدة ورقيّة هي عبارة عن كتابٍ من التاريخ يروي قصة العلاقة بين الحِرفيّ وحِرفته، مجّدت فيه إيمان المعلول الحِرفة لتفضّلها عن مُسمّى الآلة، ليكون دفاتر فنيّة تسجل قصة من التاريخ مآلها الاندثار، اتخذت من “ظهر اللوحة” خلفيّة لها.
تجربة نجد فيها إيمان المعلول قد جعلت من إطار اللوحة المحيط عنصرا من عناصرها ودمجته في موضوعها ليروي بدوره جزءا من قصة الذاكرة، ليكون الخروج عن الإطار ثورة عليه. تجربة فنية تروي تاريخ ذاكرة جماعيّة ثم فرديّة، كل صفحة من الصفحات تروي قصة بذاتها. قصة تحمل رسائل من الماضي مما يُوضح اندثار الحِرفة ومحاولة استرجاعها فنيا.
وكأن الفنانة إيمان المعلول اتبعت خطّة إنشائيّة يمكن للمتمعن التفطن إليها، تسلسل أُنجز وفق التجريب وإمكانيات المادة، تجريب كان في البداية على مستوى تقنية الكولاج لأوراق الجرائد فإخفائها في خلفية داكنة في لوحة "زخم حرفي" لتظهر أكثر فتكون أكثر حضورا وتمركزا دون التدخل عليها في لوحة “أياد مبدعة” لنجد هذه الخامة الورقية حاضرة كعنصر أساسي فتكون العنصر الرئيسي المكتف بذاته.