التلفزيون والطفل.. رافضون ومتحمسون، والمتحفظون كثيرون
تؤكد دراسات كثيرة أنّ معظم الأطفال صاروا يلازمون البيت بعد العودة من المدرسة أكثر من الأجيال التي سبقتهم لا سيما في مجتمعات المدينة، وذلك لأسباب كثيرة تتعلّق بطبيعة العصر، ويبدو هذا واضحا لدى الفئات الميسورة كما المتوسطة والفقيرة التي تقل في أحيائها النوادي والحدائق المخصصة للعب وتكثر فيها المشاكل الاجتماعية، فتنزع الأسرة وبدافع الحرص على توفير الحد الأدنى من وسائل الراحة والتسلية وكذلك التعلّم بدرجة أقل إلى جهاز يكاد يجمع الكثير على أن لا غنى عنه، واسمه التلفزيون.

لا يمكن إنكار أنّ غالبية العائلات العربية تحاول توفير أجهزة التلفزيون ومشتقاته من برامج الأطفال والألعاب على سبيل إشغالهم بدرجة أولى، وليست التربية والتعليم الذي صار بدوره شكلا من أشكال الإشغال الذي يمكّن الأولياء من الالتفات إلى همومهم المعيشيّة في الطبقات العريضة من المجتمعات العربية. يحيل طرح موضوع الأطفال وعلاقتهم بالتلفزيون ـ ومن ثمّ رأي الناس ـ أكثر من وجهة نظر وسؤال ورأي، ولا يمكن لمهتمّ أن يبدي وجهة نظره في هذا الأمر دون تحفّظ على جانب آخر، ومن هذا المنطلق تنشطر الآراء وتتشظّى إلى درجة يصعب ضبطها ووضعها في خانتين متباينتين.
الخوض في موضوع الطفل والتلفزيون ومحاولة استبيان الآراء بسؤال هل أنت مع التلفزيون كوسيلة تسلية وتعليم للطفل أم مع الطرق الأخرى والأقرب منها إلى الكلاسيكية؟ أمر يبدو عبثيّا ويشبه السؤال هل تستخدم السيارة أم لا؟ كما قال أحد المهتمّين بهذا الشأن، ثم إنّ السؤال داخل البيئة العربية وما تحويه من تناقضات يحمل إرباكات كثيرة، تبدأ بخصوصية كل مجتمع ودرجة نصيبه من الإمكانيات المتاحة، إضافة إلى صداه لدى الأسر العربية المقيمة في المجتمعات الغربية واختلاف التنشئة والاهتمامات بينها وبين أبنائها الذين تربّوا على ثقافة مختلفة.
وبهذا الصدد يقول مثقف عربي مقيم في لندن إنّ ابنه البالغ من العمر 16 عاما لديه وعي سياسي، وكان يتابع الانتخابات البلدية كما يتابع من في مثله في تونس مثلا مباريات لكرة القدم.
درجة التعلّق بالتلفزيون ونوعية البرامج التي يتابعها الطفل تطرحان في حدّ ذاتيهما نقاشا ساخنا، حتى أن أحد الدارسين قال في هذا الصدد لإحدى السيدات “إذا أردت استفزاز أولياء الأطفال اسأليهم كم ساعة يقضيها أبناؤهم أمام التلفزيون يوميا؟ ستجدي أنهم يحاولون أن يجدوا كل الأعذار التي توضح سبب قضاء الأبناء كل هذا الوقت أمام التلفزيون. أما إذا أردت أن تؤنّبي ضميرهم، فاسأليهم ما نوع البرامج والأفلام التي يشاهدها أبناؤهم؟”.
كما يفرض سؤال هل أنّ العلاقة بين الطفل والتلفزيون على سبيل التسلية والتي لابد منها له، أم أنّ فيها بعدا تعليميا وقيمة تربوية؟ وما حجم الحيز الزمني الذي تنبغي إتاحته للطفل في حال الالتقاء عند نقاط تقاطع في الآراء؟ وهل من تركيز لدى سلطات الإشراف العربية على ما بات يعرف في الغرب بـ”الدوكو دراما” أو الدراما التوثيقية، أي تلك التي تجمع بين التسلية والتشويق من ناحية والقيمة المعرفية والعلمية من جهة ثانية؟
هل يحق لنا أن نسأل أين صندوق الألعاب وزاوية الكتب والمجلّات القصصية؟ وهل نترحّم على الجدّة والحكايات وأدوات اللعب التقليدية، أم أنّ مجرّد طرح السؤال أصبح يثير السخرية ويضع صاحبه في خانة المهتمّين بالفولكلور وما بات يعرف بذكريات الزمن الجميل؟
سبب للكسل الذهني والبدني والسلوك العدواني
|
يكثر أصحاب الرأي القاطع والحاسم في رفض التلفزيون كوسيلة تسلية أو تربية لأطفالهم، من ترديد مقولة مفادها أنّهم لم يتربّوا على برامج هذا الجهاز ومشتقاته ومثيلاته من الشاشات .. ويضيف أحدهم بأنّ عدم حضور التلفزيون في طفولته جعله يكون أكثر ابتعادا عن أمراض الجيل الذي يتربّى الآن على هذا الجهاز اللعين كما يصفه.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الفئة العمريّة للآباء والأمهات الذين لا يتحمّسون لمشاهدة أطفالهم للتلفزيون ويبدون حنينا زائدا لأساليب التسلية والتعليم القديمة هي بين 45 وما فوق، لكنّ الملفت للنظر أنّ بينهم مثقفين وفنانين كالمسرحي التونسي محمد إدريس الذي يكرر مرارا في مقابلاته التلفزيونية بأنه لا يمتلك جهاز تلفزيون في بيته، وهو في نظرهم لا يعدو أن يكون مجرّد وسيلة إعلامية، فلا ينبغي أن تطلب منه دورا أكثر من مهمته، ويأتي ذلك في مجمل انتقادهم للتلفزيون الذي يصفونه بالبلادة ويتهمونه بتخريب الذائقة.
ثمّة شقّ آخر من نفس الفئة الرافضة أو حتى المتحفّظة على مشاهدة الأطفال للتلفزيون وهو شريحة أغلبها من المحافظين لأسباب اجتماعية ودينية، ويساندها في ذلك أطباء ومختصون يحاولون أن يراعوا خصوصية مجتمعاتهم ضمن تبريرات علمية، يقول طبيب مصري “إن طول فترة الجلوس للأطفال أمام التلفاز ومتابعة الأفلام العنيفة يؤثران عليهم وعلى سلوكهم، حيث أصبحوا كثيري الحركة والشغب ويثيرون الضجيج ويفتعلون المشكلات”.
ويضيف طبيب استشاري من مصر “الأطفال لا يستطيعون التفرقة بين ما هو مقبول في المجتمع وما غير ذلك، فعندما نشاهد نحن الكبار التلفزيون نستطيع تمييز أن ذلك خيال ولا علاقة له بالواقع ‘ده فيلم ومش حقيقة’ بينما لا يستطيع الأطفال أن يدركوا ذلك”.
بدأت تتزايد الأصوات الرافضة للتلفزيون في وسائل الإعلام والتواصل، حتى علّق أحدهم ساخرا بقوله “ستظهر أكثر هذه الأصوات في التلفزيون نفسه، وفي اللقطات الدعائية ببرامج الأطفال، وسيتابعها الأطفال أيضا وينتظرون مجيئها في برامجهم المفضلة بفارغ الصبر”.
بعضهم يعتبر التلفزيون رفيق سوء، وبعضهم يراه شرّا لا بد منه، وفي هذا الصدد يقول خالد وهو يعمل معلّما بأحد الأرياف “التلفزيون ليس فردا من أفراد الأسرة، هو في منزلي مغلق أثناء الغداء الأسري، وأثناء تأدية الواجب وأي وقت آخر غير الوقت المخصص لمشاهدته وهو متابعة الأخبار”.
عدم ملاءمة بعض البرامج الغربية للبيئة العربية مسألة فيها غلو كثير، وترفع غير مبرر عن القيم الإنسانية العامة ومجافاة لمبدأ التسامح
كما أنّ مشاهدة الأطفال للتلفزيون لها تأثير سلبي على ذكائهم فكلما زادت مشاهدة الأطفال للتلفزيون انخفض مستوى تحصيلهم الدراسي، هذا بالإضافة إلى الاضطراب النفسي الناجم عن ذلك، يقول محلل نفسي “مما لا شك فيه أن شاشة التلفزيون قادرة على أن تثبت في الطفل أنظمة من المبادئ والنواميس والقيم، حتى برامج الترفيه والتسلية تستطيع بالتدريج ودون أن يشعر الطفل أن تغيّر موقفه ورؤيته إلى العالم”.
“القضاء على الكثير من النشاطات والفعاليات والمواهب لدى الطفل”، هو رأي اتفق فيه الكثير من الذين يمكن تسميتهم بالانكليزية الـ”أونتي تليفيجن”، أي أعداء التليفزيون، فهو برأي أحد المهتمين "يرسّخ ويثبّت في الذهن آراء ووجهات نظر جاهزة وأحادية الجانب، فالتلفزيون قد غيّر محيط الأطفال، ليس فقط عن طريق إشغاله لمعظم وقتهم بل كذلك عن طريق حلوله محل العديد من النشاطات والفعاليات الأخرى.
ويؤكد “إن الأوقات التي يقضيها الأطفال في اللعب أو في عدم القيام بشيء محدد هي الأوقات التي تنمي كفاءاتهم وتراكم خبرات من التجربة الشخصية المباشرة”.
كذلك المتدينون، المتشدّدون منهم وكذلك الذين يقدّمون أنفسهم كوسطيين، لهم آراءهم في هذا الموضوع ويعلنونها من خلال خطب الجوامع وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، لما لهذا الأمر من حساسية بالغة الأهمية، يقول أحد أصحاب وجهة النظر هذه “إذا لم يخطط للبرامج التلفزيونية سنجد أبناءنا وبناتنا يتخبطون من هنا إلى هناك بين البرامج التلفزيونية الهادمة التي لا تفيدهم في شيء بل نجدها تساعدهم على الانحراف أحيانا وعلى اكتساب القيم الخطيرة على مجتمعنا الإسلامي. وأن عدم التخطيط والمراقبة للبرامج التلفزيونية يساعد على انتشار برامج مستعارة وأفلام ساقطة وبرامج غنائية ورقص ومسرحيات فكاهيّة تميت قلوب المشاهدين بلا فائدة منها ومن دون أي هدف اجتماعي يذكر”.
بدورهم الأطفال لهم رأيهم الذي لا يمكن تحييده في هذا الموضوع، وهو يعنيهم بالدرجة الأولى، يقول الطفل بلال (8 أعوام) “أنا ميّال أكثر للعب بالكرة مع أصدقائي في الحي ولا أشاهد التلفزيون، إلاّ للتفرّج على المباريات”. ويضيف شادي (9 سنوات) من لبنان “أقضي أغلب وقتي في الكنيسة في الغناء والتدرب على العزف وبصراحة لا يهمّني التلفزيون كثيرا”.
لاعبون ومربون في هيئة جهاز
|
يتفق مؤيدو التلفزيون في حياة الطفل، على أهمية دوره في التسلية والتربية والتعليم في المجتمعات العربية، شرط توجيهه من قبل جهات الإشراف، أو الاختيار الحر والمسؤول من طرف الأولياء، لكنهم يختلفون في الطرق والمناهج والمضامين إلى حد التباعد الكلّي، فكأنما لا يربطهم إلاّ الحديث عن جهاز التلفزيون وهو مغلق، ويقول أحد الذين يقدّمون أنفسهم في بلد عربي كـ“محافظ وحداثي في نفس الوقت” وفي لغة فيها الكثير من مفردات الوعظ والإرشاد “قد تكون للتلفزيون آثاره الإيجابية في تنمية القدرة على التخيل والتوعية بأهمية دور الأولاد والبنات في الحياة، وهو بذلك يمكن أن يساهم في تنمية القيم الاجتماعية الإيجابية لدى المشاهد مثل الحث على بر الوالدين والإحسان إلى الفقراء من خلال المناظر التي تثير الانتباه والأحاسيس والمشاعر لدى المشاهدين”.
ويعلّق أحد الشبّان على هذا بقوله “مللنا من منطق المزايدة بالقيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية، أنا أرى أنّ التلفزيون للفرجة وبمحض إرادة الطفل قبل الأبوين، لأنّ الطفل ليس غبيّا ومغفّلا ويسهل اقتياده إلى الوجهة التي يريدها الأشرار، أو حتى الكبار، والذين هم ليسوا دائما على حق، أمّا القيم الكبرى فتدرك بالسليقة وليست في حاجة إلى تلفزيون”.
ويعقّب صديقه في المقهى بلكنة لا تخلو من سخرية “هل تنتفي الفضيلة في المجتمع لمجرد اختفاء من يذكّر بها كالبرامج التلفزيونية؟ وإذا أخفينا العنف من التلفزيون، هل ينتفي من الشارع؟”.
عدم ملاءمة بعض البرامج الغربية للبيئة العربية مسألة فيها غلوّ كثير، وترفّع غير مبرّر عن القيم الإنسانية العامة ومجافاة لمبدأ التسامح، فلسنا أحرص على الطفل عموما من الذين يتوجهون إليه، وتبقى المراقبة والتوجيه هما الأنسبان.
ويقول دكتور مختص مخاطبا الأم “فكري منطقيا في البرامج التي تسمحين لأطفالك بمشاهدتها، فمثلا إذا كنت معترضة على انطلاق الصغار في المنزل مرددين ‘أنت أحمق’ كما يفعل ‘سبونج بوب’، فربما برنامج ‘سبونج بوب’ ليس ملائما لهم ودعي أطفالك يقررون، لو كان أطفالك عاقلين بدرجة كافية ويفرقون بين التلفزيون والواقع، فلا مانع أن يشاهدوا بعض البرامج، ولكن لو مثلا بدأ ابنك بضرب طفل آخر في المدرسة لأنه يراه شريرا مثل ‘دكتور أنيمو’ في ‘بن تن’ فأعتقد أن مشاهدة الكرتون العنيف لا يناسبه”.
يغفل الكثير على أنّ برامج الأطفال التلفزيونية لم تعد حكرا على الجهاز التقليدي بقنواته وثباته في صالون البيت، فقد صار بإمكان الطفل تحميلها عبر أجهزة ذكيّة أخرى، ممّا لا يعطي مبرّرا لفكرة غلق التلفزيون والتشديد على المراقبة، فالمسألة لم تعد تتعلّق بالمنع بل بشيء آخر يتعلّق بجدوى الحوار مع الطفل، هذا الحوار الذي بدأ يضمحلّ بوجود جهاز يبثّ ولا يستقبل، يفعل ولا يتفاعل، لكنّ بعض الدارسين لا يرون في هذا الأمر مسألة سلبية، فالجهاز كالكتاب أيضا من ناحية فتح دفتيه للمعلومة ودون تحفّظ وبلا أي مشقّة.
التلفزيون مجرد وسيلة إعلامية، فلا ينبغي أن تطلب منه دورا أكثر من مهمته، هذا ما يراه بعض النقاد الذين يتهمونه بتخريب الذائقة للصغار والكبار
لكنّ المعضلة التي تطرح هنا، كما يقول مثقف عربي يعيش في أوروبا، هي الوعي المجتمعي، ذلك أنّ حتى الوعي الفردي يظل معزولا وغير فاعل لدى النخب الثقافية العربية، فتذهب ثقافتها أدراج الرياح لمجرّد خروج الطفل إلى الشارع أو حتى تبديل المحطّة التلفزيونية أو زيارة أطفال من المحيط الاجتماعي القريب.
التلفزيون وغيره من الأجهزة وأدوات التواصل والتسلية الحديثة موجودة قبل مجيء الأطفال المتعاملين معها الآن، فهل ستستمرّ وتتطوّر حتى يكف “عشّاق الزمن الجميل” عن التذمّر والتحسّر ويعلنون حنينهم إلى التلفزيون والآيباد والبلاي ستيشن وغيرها، أم أنّ رفض العصر ومفرداته سمة عربية بامتياز؟ وكيف ترفض زمنا أنت تعيش فيه؟ على حدّ تعبير أحد الآباء من ذوي التحصيل العلمي العالي.
يبدو أنّ الغرب يمضي في إنجازاته التقنيّة بنفس السويّة التي يمضي فيها الكثير من العرب في هدر الكثير من الوقت لمناقشة ما أنجزه غيرهم، لكنّ موضوع علاقة المتفرّج الصغير بهذا الإنجاز الكبير يطرح في الغرب أيضا بقوّة واحتدام، وتخصّص له مراكز البحوث والندوات التي تسير كخط مواز ومستقيم مع المنجز العلمي وبمنطق أن لا أحد يعالج تبعات المنتوج إلاّ من اخترعه وسوّقه، وصار مثل الواجب عليه أن ينبّه إلى أعراضه الجانبية مثل علب الدواء.
يقول أستاذ فلسفة في جامعة عربية في معرض رده عن سؤال: ما هي الحلول المطروقة لمعالجة هذه الأزمة؟ هل سمعت يوما بجهاز عمره عقود من الزمن ووقع سحب تداوله من الأسواق لاعتبارات أخلاقية أو تربويّة؟ ويعلقّ قائلا “يمكن أن ينسحب رافضوه ويمتنعوا عن استعماله، أمّا منتجوه فيعدّلون ويطوّرون، لكنهم لا يعيدون النظر في الجهاز بل في الذي يستعمله”.