التلفزيون الموظف لاستعراض العمل الإنساني يهدم أسس الصحافة

تونس- عندما شاهد الآلاف من جرحى الحرب وقتلاها في مدينة سولفرينو الإيطالية مساء 24 يونيو 1859، لم يفكر هنري دونان في تجييش الصحافة بل سارع إلى إحداث مركز إيواء لإسعاف من تمكن من إسعافهم بمساعدة الذين كانوا معه. بعد نحو عقدين من تأسيسه الصليب الأحمر الدولي كتب دونان أن “مساعدة المحتاجين تقتضي أن نكون مستقلين عن كل عمل سياسي”.
غير أن المنظمة التي أسسها هنري دونان على الاستقلال والحياد وجدت نفسها في أواخر الستينات مضطرة إلى إطلاق صيحات فزع مدوية أمام هول الحرب في بيافرا التي خلفت من القتلى عدد ما خلفته حرب فيتنام. ولما هبت منظمات العمل الإنساني لنجدة الناس هناك تبعتها التلفزيونات التي كانت مشغولة بحرب فيتنام فوجدت المأساة آذانا صاغية هنا وهناك.
التلفزيون أداة فعالة في كشف المخبأ من المصائب، غير أنه يتحول إلى أداة هدامة عندما يستخدم في غير محله مطية لاستعراض العمل الإنساني لخدمة أهداف سياسية كما حدث في تونس مع قناة نسمة التي وظفت حيزا من بثها لتصوير ما تقدمه من مساعدات لبعض فقراء البلاد.
وأول ما يهدمه التلفزيون الموظف لاستعراض العمل الإنساني هو كرامة الناس. وننسى كثيرا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يقول في بنده الأول “يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق” كما ننسى أن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في تونس تقتضي من مالكي القنوات الإذاعية والتلفزيونية احترام كرامة الإنسان في ما تنشره من مضامين.
لقد تحول مشهد العمل الإنساني الموظف تلفزيونيا إلى فرجة مضمونها الشفقة أو الإيحاء بها طلبا لأهداف سياسية تلطخ كرامة الناس
فهل في المنّ كرامة؟ وهل في عرض الفقراء على الشاشات وهم يتلقون بعض المساعدات احترام لذواتهم؟ هل في “إجبارهم” على الامتنان حفظ لماء الوجه؟ قد يقول قائل لم يجبرهم أحد على ذلك، وهو محق طالما نظر إلى الجانب القانوني من الأمر، غير أن الصحافة أخلاقيات كذلك. وتجبر بعض المواثيق الأخلاقية الصحافيين على مراعاة ظروف الأشخاص غير المتعودين على التعامل مع وسائل الإعلام لحفظ كرامتهم.
ومما يهدمه التلفزيون الموظف لاستعراض العمل الإنساني أسس الصحافة نفسها لأن تصوير الفقراء وعرضهم في التلفزيون ممتنين عمل فرجوي استعراضي، فهو لا يسهم إطلاقا لا في الإخبار ولا في التفسير ولا في التعبير عن الرأي.
هو ليس عملا إخباريا لأن الإخبار يقوم على نشر ما هو جديد في معنى أنه غير معلوم وفي معنى أنه يضيف معطيات أخرى عن الموضوع المتحدث عنه في حين أن ما دأبت على نشره نسمة تكرار للصور نفسها لا تتغير مضامينها وإن تغيرت وجوه المحتاجين وأمكنة وجودهم.
ولا هو بالعمل التفسيري الذي يفكك أصل مأساة الفقر في البلاد ويبحث سبل علاجها ويوصّف أدوار المسؤولين عنها وأسبابها. وفي التفسير كما في الإخبار نحتاج إلى فهم الأسباب وما لم نجب عن السؤال “لماذا” تكن المضامين الإخبارية منقوصة تقتصر على النقل المبتور. ولا تجيب الصور عن ذلك السؤال المفتاح للفهم: “لماذا”.
ولا هو بالرأي الذي يحمّل المسؤولية لمن يتحملها ويطلق صيحات الفزع عندما يقتضي الأمر ذلك. إن عرض مآسي الناس في التلفزيون بالتركيز على المنّ عليهم يطمس المشكلة ولا يمكن أن يكون ذلك من مهام التلفزيون في نظام ديمقراطي.
هو يطمسها لأن إبراز مشكلة مجتمعية ما يخضع إلى مسار ثلاثي المحطات يمكّن الصحافة من تسجيلها في خانة الأجندات الإعلامية. ويكون ذلك بتحديد مكونات المشكلة وتسمى تلك المرحلة “التسمية” ثم إقناع الناس والحاكم بأنها مشكلة تقتضي حلا وهي مرحلة “مناصرة” ضحايا المشكلة ثم مرحلة “اللوم” لتقريع من أخل بواجبه في معالجة المشكلة.
تلك المستويات الثلاثة، التي تقابل في العمل الصحافي الإخبار والتفسير والرأي، غائبة في الاستعراض الفرجوي بتغييب الفهم والإفهام. أنْ نرى لا يعني أننا نفهم بل يعني أننا نتعاطف مما يترتب عليه ما يمكن أن نسميه “بلاغة الشفقة”. ولا يحتاج الفقراء إلى شفقة بل إلى عمل صحافي يعرض قضاياهم للإسهام في إفهامها للناس.
ولا يُنقص ذلك الكلام من دور التلفزيون في عرض صور مفيدة، تكون مطلوبة أحيانا، لكشف المخبأ. ويتذكر كثيرون الطفلة “كيم فوك” ذات التسع سنوات تجري عارية يوم 8 يونيو 1972 في قرية فيتنامية هاربة من القصف بالنابالم أو قبلها في الأول من فيفري 1968 صورة الكولونيل “نغوين نغوك لوان” وهو يعدم “نغوين فان لام” أحد مقاتلي “الفيت كونغ” في الساحة العامة في سايغون. أحدثت الصورتان -رغم قساوتهما- مفعوليهما ولم تكن هناك حاجة إلى عرضهما مئات المرات على امتداد سنوات.
التلفزيون تحول إلى أداة هدامة عندما يستخدم في غير محله مطية لاستعراض العمل الإنساني لخدمة أهداف سياسية كما حدث في تونس مع قناة نسمة التي وظفت حيزا من بثها لتصوير ما تقدمه من مساعدات لبعض فقراء البلاد
إن تكرار عرض الصور نفسها عن مآسي الناس مسرحية إعلامية بطلاها المخلّص الذي يقدم المعونة فيراه الناس فاعل خير، ومن لم يفعل -أي الدولة والمجتمع- وقد يراه الناس فاعل شر. تلك هي الصورة تبسط الأمور، والتبسيط من مقومات الدعاية أو العلاقات العامة تلطيفا، لاختزال وضع معقد في شعار ثنائيته الخير والشر.
ولا يمكن ألاّ نقف عند وجه الشبه بين توظيف التلفزيون في استعراض مآسي الناس، بتعلة مساعدتهم، وبين تلفزيون الواقع، مثل ما تنتجه قنوات تونسية أخرى، عندما يعرض مشاكل الناس الخصوصية ثم يحاول إيجاد مخرج لها. وعناصر التشبيه قائمة حيث نجد في الحالتين مشكلة وضحايا ومخلّصا، عناصر يجمع بينها الجمهور المتفرج واللعب على المشاعر واستدعاء العواطف من شفقة أحيانا وغضب أحيانا أخرى.
لقد تحول مشهد العمل الإنساني الموظف تلفزيونيا إلى فرجة مضمونها الشفقة أو الإيحاء بها طلبا لأهداف سياسية تلطخ كرامة الناس. هي فرجة تُختزل في شعار قوامه “الصحافي” أو من يتقمص ذلك الدور من ناحية وفاعل الخير من ناحية أخرى. وفي حالة نسمة نرى “الصحافي” وفاعل الخير شخصا واحدا. ولم يقتصر ذلك التوظيف على قناة نسمة بل شاركتها قنوات أخرى في توظيف العمل الإنساني سياسيا لحساب أطراف أجنبية منها تركيا وقطر.
هناك على موقع الصليب الأحمر الدولي قصة تشرد هنري دونان، الثري السويسري، الذي أفنى وقته وماله في العمل الإنساني. عاش سنوات نزيل مركز إيواء في قرية هايدن السويسرية حتى عثر عليه الصحافي جورج بامبيرجي عام 1895… فكانت جائزة نوبل التي أسندت له عام 1901، تسع سنوات قبل رحيله.