التكنولوجيا ليست مجرد تعويذة تفتح أبواب الثراء

بعد أن أطلقت الإنترنت الثورة الصناعية الثالثة، تقوم تقنيات الذكاء الاصطناعي، مقترنة بالبيانات الضخمة، بالتهيئة لانطلاق ثورة صناعية رابعة تمثل تحدّيا لبلدان نامية لطالما راهنت على الكثافة السكانية في جذب الاستثمار.
فعلها علي بابا الصيني، جاك ما، عام 1999، قال "افتح يا سمسم"، فانهالت عليه مليارات الدولارات. وفعل الشيء نفسه آخرون. لماذا لا نفعلها نحن أيضا.
التقنيات الجديدة للذكاء الاصطناعي أصبحت بوابة يلج من خلالها الحالمون بصناعة ثروة فردية وجماعية أيضا. هناك تقديرات تتحدث عن أن الذكاء الاصطناعي سيساهم بما يقارب 16 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، وهو رقم يزيد على الناتج الإجمالي للصين والهند معا.
قد تفيد التعويذة الأفراد، ويفتح لهم الذكاء الاصطناعي أبواب الثراء. كل ما يحتاجون إليه هو القدرة على اقتناص الفرص، سواء كانوا مختصين في التكنولوجيا الرقمية أو في التسويق أو حتى في المجال الإبداعي. ولكن، ستبقى هذه حالات فردية استثنائية لا يقاس عليها.
اتساع الفجوة
الدول النامية التي تواجه مخاطر اتساع الفجوة مع البلدان الغنية أمامها تحديات أكبر، أول تلك المخاطر تحول المزيد من الاستثمارات إلى اقتصادات الدول المتقدمة التي أصبحت فيها الأتمتة حقيقة مستقرة.
المشهد سيكون أصعب بكثير في بلدان كانت تأمل في تحقيق مكاسب عالية من التحول الديموغرافي، وهي ظاهرة مثلت ميزة طالما راهنت عليها اقتصادات الدول النامية. وبالتالي، قد نشاهد قريبا عواقب سلبية على فرص العمل في تلك البلدان، ناجمة عن تبني تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
حتى وقت قريب كان صناع السياسات في تلك الدول يتفاخرون بتزايد السكان، خاصة فئة الشباب، باعتبارهم فرصة تتيح الاستفادة من تحول الوظائف عن الصين مع تحول معظم سكانها لفئة الدخل المتوسط.
اليوم، تشير المعطيات إلى أن الروبوتات ستسرق فرص العمل قريبا، مما يستوجب على المسؤولين وصناع السياسات التحرك لتخفيف المخاطر والحيلولة دون حدوث تباعد متزايد بين دولهم النامية والدول المتقدمة.
في الماضي أتاحت التحولات التكنولوجية فرصا للتوظيف أكثر مما تسببت فيه من فقدان للوظائف، وكان سهلا حينها على العمال اكتساب مهارات جديدة أو الانتقال إلى صناعات أخرى، لكن في ظل تحولات التكنولوجيا الذكية لم يعد الأمر بهذه السهولة، وفقد الكثيرون عملهم بشكل نهائي بسبب منها.
وكانت دراسة صادرة عن معهد ماكنزي العالمي قد أشارت إلى أنه بحلول عام 2030 ستحل الروبوتات محل ما يقارب 30 في المئة من العمالة البشرية الحاليّة.
ووفقا للمعهد، الذي استند على تحليل سيناريوهات تبني للتكنولوجيا الذكية مختلفة، ستحل آلية التشغيل الآلي محل ما بين 400 و800 مليون وظيفة بحلول عام 2030.
قريبا، لن تحتاج أديداس للذهاب إلى باكستان لاستغلال الأيدي العاملة النسائية منخفضة الكلفة لإنتاج كرات القدم
وفي مواجهة سيناريو، لم يعد مشكوكا فيه، مثل هذا، سيكون على صناع السياسات في الاقتصادات النامية اتخاذ إجراءات لرفع الإنتاجية وتحسين المهارات بين العاملين. ففي مواجهة الضغوط الناجمة عن تبني التكنولوجيا الذكية على وجه الخصوص، ستحتاج الدول لتحقيق نقلة كبيرة وسريعة لرفع الكفاءة الإنتاجية والاستثمار في التعليم وتنمية المهارات، إن هي أرادت التأقلم والاستفادة من التحولات الديموغرافية المنتظرة.
وتتحدث الدراسة عن اتساع الفجوة بين الدول يمكن أن يحدث من خلال ثلاث قنوات وهي: نسبة المشاركة في الإنتاج، وتدفقات الاستثمار، ومعدلات التبادل التجاري.
لا يمكن للدول النامية الاستمرار في الرهان على ارتفاع الأجور في الدول المتقدمة لجذب الاستثمارات، لأن الشركات في تلك الدول ستلجأ غالبا إلى توظيف المزيد من الروبوتات، خاصة في القطاعات التي يكون إحلال الأتمتة فيها محل العمالة البشرية سهلا. ومع ارتفاع إنتاجية الروبوتات، سيجني الاقتصاد المتقدم فوائد أكبر، خاصة على المدى الطويل، ليزداد التباعد واتساع الفجوة كلما زاد استخدام جهد الروبوتات عوضا عن الجهد البشرية.
حلقة إنتاجية لا يمكن كسرها أو إيقافها؛ زيادة إنتاجية الروبوتات، سترافقها زيادة في الاستثمار. هذه المرّة لن تتجه الاستثمارات إلى البلدان النامية بل ستستقر في الاقتصادات المتقدمة، فهي من يستخدم الروبوتات بكثافة.
وما لم تجد البلدان النامية مخرجا سريعا بعيدا عن قطاعات اقتصادية تعتمد العمالة غير الماهرة، وهو النوع الأكثر وفرة في هذه الاقتصادات مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، ستواجه انخفاضا متزايدا في معدلات التبادل مع الدول المتقدمة التي دخلت عصر الثورة الصناعية الرابعة فعليا، ولم يعد الأمر مجرد نبوءة يشكك في حدوثها.
عصر الروبوتات
بلغة مبسّطة وواضحة، الروبوتات ستتسبب في تسريح العمال غير المهرة في الدول المتقدمة، لتحل محلها العمالة الماهرة والروبوتات، وهو ما سينجم عنه انخفاض في كلفة الإنتاج يستتبعه بالضرورة انخفاض في سعر السلع، مما يحد أو ينهي تماما حوافز الاستثمار في الدول النامية، وربما يقود إلى هبوط ليس فقط في إجمالي الناتج المحلي النسبي لهذه الدول، بل وفي إجمالي الناتج المحلي المطلق أيضا.
قريبا، لن تحتاج أديداس للذهاب إلى باكستان لاستغلال الأيدي العاملة النسائية منخفضة الكلفة لإنتاج كرات القدم.
بدءا من عام 1995 ورّدت باكستان الكرات لدوري كرة القدم الألماني والفرنسي ودوري أبطال أوروبا، وبحلول عام 1999 تجاوزت إنتاجية باكستان لكرات القدم 75 في المئة من مجموع الإنتاج العالمي.
في كأس العالم 2014 وقبل انطلاق البطولة وبعد الإعلان عن مواصفات الكرة المستخدمة، اعتذرت الصين لشركة أديداس عن إنتاج الكرات.. الأمر الذي جعلهم يتجهون إلى مدينة سيالكوت في باكستان .
مع ارتفاع إنتاجية الروبوتات لا يمكن الاستمرار في الرهان على ارتفاع الأجور في الدول المتقدمة لجذب الاستثمارات
اشترط المسؤولون في شركة أديداس على مالك المصنع أن تتم صناعة كرات كأس العالم المستخدمة في البطولة خلال 33 يوما فقط، وكانت النتيجة أنه تم توريد أكثر من 42 مليون كرة عليها شعار الشركة ومطابقة للمواصفات العالمية خلال شهر واحد باستخدام بمعدات وتجهيزات وصفتها شركة أديداس بأنها معدات من العصر الحجري .
وكان معظم عمالة هذا المصنع من النساء اللواتي ينتجن ما يقارب من 100 كرة في الساعة بأجر يعادل آنذاك 100 دولار في الشهر، وهو أقل من سعر بيع الكرة نفسها التي كانت تباع بـ160 دولارا.
ماذا سيكون مصير مدينة سيالكوت التي وضعتها كرات القدم على خارطة العالم، وماذا سيكون مصير تلك الصناعة في عموم باكستان في اللحظة التي تقرر فيها أديداس تصنيع كرات القدم بواسطة الروبوتات.
ما ينطبق على كرات القدم، ينطبق أيضا على صناعات النسيج وعلى مراكز النداء وعلى صناعة السيارات وقائمة طويلة من الصناعات التقليدية.
دولة فقيرة ماديا تصنع أغلى الصناعات لأغنى موظفين في العالم.. عمال فقراء يصنعون ما يدخل الملايين للكثير من البشر حول العالم.
ستتحول فجأة الكثافة السكانية من فرصة للاستثمار إلى عبء سيؤدي في النهاية إلى انهيار اقتصاديات البلدان التي راهن فيها المسؤولون على الأيدي العاملة الرخيصة.
صناع القرار
تأثيرات الذكاء الاصطناعي لن تبقى محدودة في استخدام الروبوتات لتحل محل اليد العاملة البشرية وسرقة فرص عمل بلدة سيالكوت الباكستانية. الذكاء الاصطناعي سيسطو أيضا على وظائف المدراء التنفيذيين والمسؤولين السياسيين، أو سيقف إلى جانبهم لتقديم المساعدة.
ومن المفيد هنا ذكر بعض مما تحدث عنه تقرير صادر عن مؤسسة تشاتم هاوس (المعهد الملكي للشؤون الدولية) في يونيو 2018، بعنوان “الذكاء الاصطناعي والشؤون الدولية: الاضطراب المنتظر”.
يتحدث التقرير عن تأثيرات تكنولوجيا الذكاء في المجال التنفيذي الذي يتسم بدرجة عالية من التعقيد، ويُشير إلى أنه من الصعب تصور أن تحل الروبوتات محل التنفيذيين في صنع القرار في المدى القصير، لكن التكنولوجيا الذكية ستلعب دور المساعد والمستشار الخاص لصانعي القرار في اتخاذ القرارات بطريقة سريعة وفعالة.
على البلدان النامية الاستثمار في رفع الإنتاجية ومستويات المهارة حتى يكون الذكاء الاصطناعي مكمّلا للقوى العاملة فيها
ويُشير التقرير إلى الدور التحليلي لأنظمة الذكاء الاصطناعي، والوصول إلى نتائج سريعة في المهام التي تمت برمجتها للقيام بها، كمراقبة تنفيذ معاهدات السيطرة على الأسلحة النووية أو الكيماوية. ومع تزايد حجم البيانات، سواء التجارية أو الصناعية، ستزداد كفاءة الذكاء الاصطناعي في بلورتها وتحليلها، وتسهل بالتالي على صناع القرار اتخاذ القرار المناسب.
نحن على بعد خطوات من عالم يمد فيه الذكاء الاصطناعي صناع القرار بنتائج محتملة الحدوث مستقبلا، وذلك وفقا لما تمّ تحليله من بيانات. فمثلا، من خلال أنواع معيّنة من التطبيقات يستطيع صانع القرار في الشؤون الدولية التوصل إلى نماذج للمفاوضات المعقدة، يبنون عليها رؤية مسبقة عن مواقف وخطوات الفاعلين الآخرين المحتملة. ومع التراكم المعرفي، وزيادة تطور برمجة التطبيقات، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يجعل التنبؤات أكثر دقة.
مع تحدّيات بمثل هذا الحجم، ما العمل لتجنب نزوح الاستثمارات من البلدان النامية؟
لا يوجد حل سحري لتجنب حدوث الفجوة. خاصة مع الوتيرة السريعة التي تسير بها ثورة الصناعية الرابعة. على البلدان النامية أن تستثمر في رفع الإنتاجية ومستويات المهارة بصورة عاجلة أكثر من أي وقت مضى، حتى يكون الذكاء الاصطناعي والروبوتات مكمّلا للقوى العاملة فيها.
لم يعد هناك من شك في أن تحسن إنتاجية الروبوتات والاستعانة بالذكاء الاصطناعي على أعلى المستويات سيكون عاملا في اتساع الفجوة والتباعد بين البلدان المتقدمة والنامية في اللحظة التي تحل فيها الروبوتات محل العمال، ويستبدل فيها المدراء والمسؤولون مساعديهم الشخصيين بأنظمة تحليل ذكية، وهي لحظة قادمة لا ريب فيها.