التكنولوجيا بدأت أتمتة البشر تحت مجهر المراقبة الدائمة

العالم في قبضة رأسمالية جديدة ترصد حركات وسكنات الجميع وتحولها إلى مصدر للإيرادات.
الأحد 2019/01/27
جميع الأجهزة الذكية هي قنوات لتدفق البيانات السلوكية إلى شركات التكنولوجيا

هناك حقيقة بسيطة تحاصرنا بدرجة أكبر يوما بعد يوم وهي أن التكنولوجيا أحكمت قبضتها على مصير هذا الكوكب بدرجة لم يعد بالإمكان الإفلات منها، وأننا ننزلق بشكل متسارع إلى عهد رأسمالية جديدة تسعى لأتمتة البشر وتحويلهم إلى بيانات ومصدر للإيرادات.

لا يمكن لأحد أن يعرف على وجه الدقة حجم البيانات التي جمعتها شركات التكنولوجيا عنه، بل إن مسؤولي تلك الشركات لا يمكن أن يعرفوا جميع تفاصيلها، وكل ما يهمهم أنها منجم لتحقيق الإيرادات.

وفي كل الأحوال يتواصل تدفق البيانات التي نتبرع بتقديمها بسرعة خارقة من سلوكنا على الانترنت والتطبيقات الالكترونية وملاحقة خارطة تحركاتنا من خلال الأجهزة الذكية التي نحملها والكاميرات المنتشرة في كل مكان والقادرة على التعرف على الوجوه.

التأثير الأكبر لا يكمن من انتهاك خصوصية الأفراد بل في صناعة توجهات المجتمعات إلى درجة تقارب الأتمتة الشاملة التي تصنع رغباتنا وحاجاتنا قبل إنتاج السلع والبرامج والألعاب لإرضائها.

لم نلمس حتى الآن سوى بعض الملامح مثل ظهور إعلانات عن سلع معينة بعد ثوان من بحثنا عنها في موقع آخر. لكن تلك البيانات ستجد حتما استخداما كبيرة في المستقبل.

من المستبعد أن تتمكن أي جهة في العالم وبضمنها الحكومات والجهات الرقابية المحكومة بقواعد تقليدية، من التأثير في زخم تلك التطورات المتسارعة ومطاردة المتواليات الرقمية المغلقة التي تقودنا.

شوشانا زوبوف:  مطالبة شركات التكنولوجيا باحترام الخصوصية مثيرة للسخرية مثل مطالبة زرافة بتقصير رقبتها
شوشانا زوبوف: مطالبة شركات التكنولوجيا باحترام الخصوصية مثيرة للسخرية مثل مطالبة زرافة بتقصير رقبتها

ما هي حظوظ تلك الجهات في اللحاق بهدف يبتعد بسرعة تفوق سرعتها بآلاف أو ملايين المرات؟ لذلك فإن الإدراك المتأخر لطبيعة ما يحدث سيكون حتما سيد الموقف وبلا منازع.

ومع ذلك يتسابق الخبراء لرسم سيناريوهات افتراضية ومحاولة تفسير ما يحدث، ومنها التصورات المخيفة لنموذج عمل العالم الرقمي في كتاب شوشانا زوبوف الجديد “عصر رأسمالية المراقبة”.

الأمر لا علاقة له بالتشاؤم والتفاؤل ولا يتعلق بوجهات النظر أو جبال الكتب والآراء والنظريات التي تحاول أن تتلمس تفسيرا لما تفعله التكنولوجيا الرقمية بنا وبعالمنا.

يقول تقرير تحليلي في صحيفة الغارديان البريطانية إن هناك الكثير من العلماء الذين يفكرون ويبحثون ويكتبون عن هذه الأشياء، لكنهم يشبهون الرجال المكفوفين الذين يحاولون وصف الفيل في الخرافة القديمة حيث يخرج كل شخص بوجهة نظر جزئية عما يستطيع لمسه فقط. ولكن لا أحد لديه الصورة الكاملة.

ورغم أن هذه التحولات الخارجة عن جميع التوقعات تعني قلة الثقة بتصورات المفكرين عما يمكن أن يحدث، إلا أن هناك أسبابا تدعم الاهتمام بكتاب زوبوف، والتي برزت قبل 3 عقود في جامعة هارفارد وغيرت الكثير من المفاهيم.

في عام 1988 نشرت زوبوف كتابا بعنوان “عصر الآلة الذكية” الذي غيّر طريقة تفكيرنا حول تأثير الحوسبة على طبيعة المؤسسات وسوق العمل. وقدمت تصورات صادمة في ذلك الوقت عن كيفية تغيير التقنية الرقمية لعمل المديرين والعاملين.

وبدا بعد ذلك أنها اختفت عن الأنظار، لكنها عادت وفجّرت عاصفتين من خلال بحث أكاديمي في عام 2015 ومقالة في صحيفة ألمانية لتمهد الطريق لمفاجآت الكتاب الجديد: عصر رأسمالية المراقبة أو الترصد، الذي يعتبره الكثير من المحللين المحاولة الأكثر طموحا لرسم الصورة الأوسع وتوضيح كيف حدثت وكيف تسللت آثار الرقمنة إلى حياتنا.

ويشير محور الكتاب إلى أن الأمر لا يتعلق بطبيعة التكنولوجيا الرقمية بل في ظهور نموذج جديد من الرأسمالية، التي تتأقلم وتروض التطورات التكنولوجية لخدمة أغراضها، وقد أطلقت عليه اسم رأسمالية المراقبة أو رأسمالية الترصد.

وتقول إن ذلك النموذج اكتسب ملامحه الشرسة من خلال توفير خدمات مجانية، يتلقفها ويستمتع بها مليارات الأفراد، وهي تمكن مقدمي تلك الخدمات من مراقبة سلوك المستخدمين بتفاصيل مذهلة ودون موافقتهم الصريحة في كثير من الأحيان.

ليس بالضرورة أن تكون هناك جهة قد اختارت هذا المسار، ولكن التطورات التكنولوجية قادت الشركات الكبرى إلى سباق في هذا المسار الجارف، الذي لا سبيل لمقاومته سواء من قبل الشركات أو الأفراد أو الجهات التنظيمية إلا بدرجة هامشية وتجميلية.

وترى زوبوف إن رأسمالية الترصد تستخدم التجارب الإنسانية كمادة خام مجانية وتترجمها إلى بيانات سلوكية. ورغم أنها تستخدم بعض البيانات في تحسين خدماتها، إلا أنها تحصل في النهاية على ثروة بيانات يتم استثمارها في سياسات التصنيع المستقبلية.

وتعرف تلك العملية باسم “الاستخبارات الرقمية” وهي تستخدم لتحديد ملامح المنتجات التي يمكن أن تلقى رواجا لدى المستهلكين في المستقبل.

وتضيف زوبوف أن تلك المنتجات المتوقعة أصبح لها سوق أطلقت عليه “سوق العقود الآجلة للسلوكيات” والذي اتسع الاستثمار فيه بشكل هائل حيث يتم بيع خلاصات الأفكار المستنتجة من سلوك المستهلكين.

وفي الوقت الذي يبدو فيه سلوك شركات مثل غوغل وفيسبوك معروفا على الأقل من قبل الخبراء، فإن الصورة الأوسع التي تعرضها زوبوف لما وراء ذلك السلوك لا تزال مجهولة إلى حد بعيد.

وتشير إلى أن معظمنا كان يعتقد أننا نتعامل مع مجرد خوارزميات غامضة، في حين أننا في الواقع نشهد آخر مراحل التطور الطويل للنظام الرأسمالي، الذي انتقل من تصنيع المنتجات إلى الإنتاج الواسع والرأسمالية الإدارية ثم إلى الرأسمالية المالية.

وأخيرا وصلت الرأسمالية إلى استغلال التنبؤات السلوكية المستخلصة خفية من مراقبة حركات وسكنات المستخدمين.

وتؤكد تلك القراءة العميقة أن سلوك شركات التكنولوجيا العملاقة بعيد عن مجرد هلوسة رقمية عشوائية، وأنها تتجه إلى ما يشبه أتمتة البشر وتحويلهم إلى بيانات ومادة خام لمشاريع رأسمالية المراقبة والترصد.

ويقول جون ناوتون كاتب تحليل في صحيفة الغارديان إن النظر إلى الأمر من هذه الزاوية، يكشف عن قسوة استعمارية يمكن أن يفخر بها الرأسمالي الصناعي التاريخي جون روكفلر، في إشارة إلى قسوة فلسفة الرأسماليين الأوائل.

ويوضح أن رأسمالية الترصد الجديدة تعتمد أولا على الاستيلاء المتعجرف على البيانات السلوكية للمستخدمين، التي تعتبرها مادة خامّا مشاعة، رغم أن المستخدمين لم يصرحوا لها بذلك، ثم تستخدمها بطريقة غير شفافة لتكريس جهل المستهلكين وتبعيتهم للشركات العملاقة التي تقودهم حيث تشاء.

اللافت أن هذا التحول الخطير يجري في ظل غياب القوانين والسلطات الرقابية أو مجرد القليل جدا منها، حيث لا يمكن لأي جهة في العالم أن تسبر أغوار ما تجمعه تلك الشركات مهما بلغت الأدوات التنظيمية والرقابية.

وتظهر وقاحة هذا التوجه على سبيل المثال في قيام غوغل بتصوير جميع الشوارع والمساكن والبنايات في العالم دون أن تطلب إذنا من أحد، أو قرارها إنشاء نسخ رقمية لجميع الكتب على مرّ التاريخ وتخزينها دون أخذ حقوق الملكية الفكرية بنظر الاعتبار.

وفي مثال آخر إطلاق فيسبوك لتقنية “بيكون” المثيرة للجدل، والتي تأخذ أنشطة بعض المستخدمين وتنشرها في صفحات مستخدمين آخرين دون إذنهم أو حتى علمهم.

غوغل أطلقت شرارة رأسمالية المراقبة والترصد عام 2001 لمواجهة فقدان ثقة المستثمرين خلال أزمة شركات الدوت كوم
غوغل أطلقت شرارة رأسمالية المراقبة والترصد عام 2001 لمواجهة فقدان ثقة المستثمرين خلال أزمة شركات الدوت كوم

لم يعد قول الخبير الأمني ​​بروس شناير قبل سنوات إن “الترصد هو محور نموذج أعمال شركات الإنترنت” يعبر سوى عن جزء بسيط من المخاطر، التي تسلط شوشانا زوبوف الضوء عليها في كتابها الجديد.

وتتفاقم المخاطر حين نجمع مراقبة الدولة مع ترصد شركات التكنولوجيا الرقمية وتؤدي إلى تقسيم المجتمعات إلى كتلتين، إحداهما أقلية غير مرئية تراقب الآخرين وغير خاضعة للمساءلة والأخرى أغلبية تجري مراقبة جميع حركاتها وسكناتها.

ويحذر ناوتون من العواقب الخطيرة لهذا الواقع الجديد على الديمقراطية. ويقول إن المجتمعات لا تزال تملك بعض السلطة على درجة الرقابة التي تمارسها الدولة، لكنها في المقابل لا تملك أي إشراف تنظيمي فعال على نشاط الشركات. ويرى أن ذلك أمر لا يمكن قبوله.

ويبدو أن الإيقاع السريع الذي تسير فيه رأسمالية المراقبة والترصد يجعل من الصعب وربما من المستحيل إصلاح الخلل لأنه يتطلب معالجة جوهر المشكلة التي أفلتت من أي إمكانية للمراجعة أو اللحاق بها.

وتقول زوبوف إن مطالبة الشركات التي تراقبنا باحترام الخصوصية أو الضغط من أجل وضع حد للمراقبة التجارية مثير للسخرية ويشبه مطالبة الزرافة بتقصير رقبتها، لأن هذه المطالب تمثل تهديدا وجوديا لتلك الكيانات وهي بالتأكيد لن تستسلم بسهولة.

وتشير إلى أن رأسمالية المراقبة بدأت عام 2001 وأن غوغل كانت خلف ظهورها كحل للطوارئ المالية، حين واجهت شركات الإنترنت الناشئة أزمة فقدان ثقة المستثمرين خلال الأزمة التي عرفت بفقاعة الدوت كوم.

وحين تصاعدت ضغوط المستثمرين قررت غوغل زيادة أرباح الإعلانات عن طريق استخدام وصولها الحصري إلى سجلات بيانات المستخدمين، إضافة إلى قدراتها التحليلية الكبيرة لإنشاء توقعات من الروابط التي يفتحها المستخدمون عبر محرّك بحثها العملاق لمعرفة الأماكن الأنسب لوضع الإعلانات.

ومن الناحية التشغيلية ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، تمكنت غوغل من إعادة توظيف مخزونها المتنامي من البيانات السلوكية وطوّرت أساليب البحث عن مصادر جديدة لتلك البيانات بعد أن أدركت أنها تملك منجما لا ينضب.

كما طورت أساليب سرية لالتقاط البيانات يمكنها حتى أن تكشف عن البيانات التي اختار المستخدمون عن عمد الحفاظ على خصوصيتها، إضافة إلى استنتاج المعلومات الشخصية التي لم يقدمها المستخدمون.

هكذا أصبحت البيانات قاعدة للتنبؤات الجديدة، وظهر عالم جديد لم يكن في الحسبان يطلق عليه اسم “علوم فائض البيانات السلوكية”.

شيريل ساندبرغ نقلت فلسفة رأسمالية الترصد إلى فيسبوك
شيريل ساندبرغ نقلت فلسفة رأسمالية الترصد إلى فيسبوك 

ومع ارتفاع معدلات تصفح الإنترنت، أصبح الإعلان في نهاية المطاف حجر الزاوية لظهور نوع جديد من التجارة التي تعتمد على المراقبة الإلكترونية على نطاق واسع.

وتقول زوبوف إن هذه الآليات الجديدة أصبحت مرئية فقط عندما تم إدراج مجموعة ألفابيت المالكة لشركة غوغل في أسواق الأسهم عام 2004 حين أعلنت خلال العملية أن إيراداتها تضاعفت بنحو 36 مرة بين عامي 2001 و2004.

وتضيف أن رأسمالية الترصد بدأت بالإعلان لكنها لم تعد تقتصر عليه، إذ سرعان ما أصبحت النموذج الأساسي لتراكم رأس المال في وادي السليكون، بعد أن احتضنتها جميع الشركات والتطبيقات الناشئة تقريبا.

وتشير زوبوف إلى أن شيريل ساندبرغ التي كانت تعمل مديرة تنفيذية في غوغل هي التي نقلت فلسفة رأسمالية الترصد إلى فيسبوك حين انتقلت في عام 2008 لتصبح المسؤول الثاني في إدارة فيسبوك بعد مارك زوكربيرغ.

اليوم لم تعد رأسمالية الترصد والمراقبة محور عمل عدد من الشركات فقط، بل انتقلت إلى عدد هائل من الشركات والمنتجات والخدمات والأعمال الاقتصادية وبضمنها قطاعات التأمين ومبيعات التجزئة والتمويل والترفيه والنقل.

وأصبحت محركا لتوليد أنظمة جديدة متكاملة من الموردين والمنتجين والعملاء وصانعي السوق، بل إنها انتقلت أيضا إلى النشاطات غير الربحية والخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والتعليم.

وتقول زوبوف إن جميع المنتجات أو الخدمات التي تبدأ بكلمة ذكية وكل جهاز يدعم الإنترنت وكل مساعد رقمي، هي قنوات لتدفق البيانات السلوكية التي تنتهي في نهاية المطاف في مستودع لاستنتاج وتحديد ملامح مستقبل اقتصاد الترصد والمراقبة.

17