التفاهة جائحة تقصي المعايير الرفيعة في المجتمعات

يعيش العالم مرحلة تاريخية غير مسبوقة تتعلق بسيادة نظام أدّى تدريجيا إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الحياة في المجتمعات، كما أن العالم العربي لا يعتبر استثناء. وعلى الرغم من أن المجتمعات والأنظمة العربية تعيش على هامش الرأسمالية في أنظمة سياسية واقتصادية هجينة تجمع بين الرأسمالية والاشتراكية وبين الديمقراطية والدكتاتورية، فإن الفضل يرجعه البعض إلى العولمة التي سرّبت إلى مجتمعاتنا الكثير من مظاهر نظام التفاهة.
لندن – تحدّث أحمد (23 عاما)، وهو أحد طلاب كلية الهندسة في جامعة المنوفية المصرية، عن واقعة “خداع” و”نصب” تعرض لها هو وزملاؤه من قبل بعض أساتذة وأعضاء في مجلس إدارة الكلية.
وقال أحمد في تغريدات نشرت على حسابه على تويتر “أنا أعرف أن التغريدات ممكن تنهي حياتي المهنية من قبل ما تبدأ أصلا بسبب تخبيط في حيتان (يقصد مسؤولي الجامعة)”. وأضاف “كنا سبعة طلاب في بكالوريوس هندسة الإنتاج والتصميم الميكانيكي بجامعة المنوفية. كما هو معمول به، كنا مطالبين بمشروع تخرّج وبدأنا نفكر خارج الصندوق في فكرة جديدة، ولم نقلّد”. وأردف “قررنا تصميم روبوت لجمع مكونات لوحات تركيب السطح. بعد درس جدوى الموضوع، وجدنا أن تكلفة المشروع 85 ألف جنيه مصري (نحو 5400 دولار أميركي) وهي ضخمة جدا”.
وأوضح الطالب أنهم توجهوا إلى الأستاذ المشرف على المشروع باقتراحين، إما طلب دعم من البحث العلمي أو الاكتفاء برسم التصميم نظريا من دون تطبيقه. وتقدّم الطلاب بطلب الدعم لكنه رُفض لأن “الأستاذ المشرف على المشروع لا خبرة لديه في موضوع المشروع”، وفق أحمد.
وطرح الطلاب اقتراحا جديدا بتعديل التصميم لتفادي عدة مراحل وخفض التكلفة على أن يتشاركوا في دفعها بشرط واحد هو “أخذ الماكينة بعد مناقشة المشروع”. لكن المشرف أبلغهم صراحة بعد إتمام المشروع ومناقشته بأنه “ليس لكم شيء عندي” وطردهم. ولفت إلى أنهم استنفدوا جميع السبل القانونية لطلب حقهم. وأوصى أحمد يائسا أي طالب حالي أو مستقبلي في الجامعة بأن “يلغي طموحاته وألا يحاول التفكير خارج الصندوق فقط يكون نسخة مقلدّة عن الآخرين”.
وأكد أحمد “هذا ما يفعله دكتور في الجامعة من المفروض أن يكون قدوة للطلبة”.
وللقدوة أهمية قصوى تندرج في أن كل البشر في حاجة إلى شخصية إيجابية وناجحة مثمرة بأعمالها وأخلاقها على المستويين الشخصي والعملي من أجل الاستفادة من تجاربها الحياتية المليئة بالنجاح والمزدهرة دائما، ولخلق مجتمع قادر على تطوير قدراته ونفسه وتجديد حياته بصفة دورية والمثابرة على العمل والاجتهاد فيه.
تشويه الأكاديميات
لا تعدّ جامعة المنوفية المصرية استثناء، فقد غرقت الجامعات في علاقات تجارية، وبات الطلبة وإنتاجهم سلعة، وفسد البحث العلمي باختراقه، حتى صرّح رئيس جامعة مونتريال عام 2011 بأن “العقول ينبغي أن تُفصَّل وفق احتياجات سوق العمل”؛ في وقت كانت إدارة جامعته بيد البنك الوطني وشركة “باور كوربوريشن أوف كندا” الاستثمارية، وصيدليات “جان كوتو”، وشركة “جاز مترو” للطاقة، وغيرهم ممن قضوا على دور الجامعة الرئيسي.
وكان المفكر والفيلسوف الكندي آلان دونو خلص إلى أن قطب الرحى في سيطرة التافهين على كل مفاصل الحياة المعاصرة يبدأ وينتهي بالميادين الأكاديمية، وهي الجامعات والكلّيات ومراكز الأبحاث. فالمنظومة الأكاديمية في العالم برمته، وحتى في أشهر وأرقى جامعات العالم، صارت رهينة التفاهة والتافهين.
وفي المجتمعات الحالية تنحّى المثقف والحكيم والعالم، ليحل محله الخبير والاختصاصي والبروفيسور. قد يبدو هذا اختلافا بسيطا في التسمية، لكنّ دونو يؤكد أنه تم تشويه دور الأكاديمية وانحرافها عن رسالتها ومهمّتها ويتضح ذلك بجلاء في هذه الثنائية التي تبدو غير ذات أهمية، لكنها هي التي تميط اللثام عمّا يجري بدقة وعمق وأمانة. فالمثقف (الحكيم والعالم والباحث) يضع نصب عينيه الحق والحقيقة، ويزن الأمور بوازع من ضميره قبل إطلاق أحكامه.
وفي الجهة المقابلة، نجد الخبير (الاختصاصي والبروفيسور والدكتور). والفرق الجوهري بين الخبير والمثقف، أن الخبير يبيع كلمته وضميره خدمة لمصالحه الخاصة الضيّقة، وذلك على حساب الحق والحقيقة، وإعلاء لحساب الذين يرتبط بهم بمصالح. فالخبير مستعد أن يكيّف ويحوّر ويؤقلم، وحتى يزوّر، الحقائق العلمية خدمة للفئات التي تحتكر السلطة والمال والنفوذ.
وهكذا جرى “تتفيه” الأكاديمية وإفراغ ميادين الأبحاث والدراسات العليا من مضمونها، حتى صارت السيادة للسخافة والسفاهة، حيث كان من المفروض أن تسود الحكمة والعلم والحق والأخلاق. ولم يعد من المهمّ أن يكون المرء مبدعا وموهوبا حتى يتسنى له الصعود في الدرجات الأكاديمية، فالمهمّ أن “يؤدي اللعبة”، ويتقن فنون التملّق والتزلّف والاحتيال والرضوخ لنظام التفاهة.
نجوم العصر
توجهت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية إلى 12 خبيرا ومختصا في العلاقات الدولية، بالسؤال الآتي: كيف سيكون العالم بعدما يزول وباء كورونا؟
وكانت جميع الأجوبة تدور في دائرة صعود الشعبوية، والعودة إلى مركزية الدولة واحتمالية ضعف العولمة، واحتمالية صعود النموذج الصيني وزيادة التنافس الاقتصادي بين الصين وأميركا، والتنبؤ بأزمة تهدد الاقتصادي العالمي. لكن لم يتنبّأ أحد باحتمالية إعادة التفكير في المدخلات التي أنتجت نظام التفاهة، إذ تعلمنا من التاريخ أن العالم والأفكار لا يتغيران إلا بعد أن تقع الكارثة.
ويؤسس “نظام التفاهة” لواقع جديد يظنّ الإنسان فيه أنه حرّ تماما من أيّ قيد، لكن هذا لا يعني سوى أننا نخضع لمعيار وحيد لا يمكننا اختيار سواه.
وهذا ما يُفسّر ظهور “خبراء” فارغين قادرين على توجيه الرأي العام عبر خطب تافهة لا تحفظ للخبراء ومن يدعمونهم إلاّ بقاءهم في السلطة.
وحدّد أستاذ الأدب المقارن إدوارد سعيد وظيفة الخبير في تحويل الأفكار إلى عناصر مجردة ذات مظهر نقي، دون فكرة أو مقترح قوي، وأطلق عليه لقب “السفسطائي المعاصر” الذي يضفي الشرعية على معلوماته، في جزء من اتفاق بين الخطاب العام ومُلاك رأس المال، ممثلين في أصحاب المؤسسات الإعلامية، فخطابه قابل للتسويق، غير مثير للجدل، وممر صالح للسلطة لنقل تعليماتهم وترسيخ نظامهم. وفي مجتمع نظام التفاهة، يتشابه خطاب الخبير مع أستاذ الجامعة، ومؤسس شركة العلاقات العامة مع الحاكم.
"نظام التفاهة" يؤسس لواقع يظن الإنسان فيه أنه حر، لكن هذا لا يعني سوى أنه يخضع لمعيار وحيد لا يمكنه اختيار سواه
ويتعلق أسلوبهم باختيار كلمات تبدو علمية، لا علاقة لها بالمكان ولا بالزمان، وغير قابلة للقياس، ولا للعاطفة أو تمثل أحداثا تاريخية مؤلمة. وهكذا، تحولت الإرادة الشعبية إلى قبول مُجتمعي، والمواطن إلى مستهلك ومتابع. وصار الشأن العام حقل إدارة خرجت منه منظومة القيم والمبادئ وكلّ المفاهيم العُليا.
ويقول المؤرخ المصري عباس الطرابيلي “لا شك أن كل عصر له نجومه، ففي العصر الثقافي يكون الأدباء هم النجوم.. وفي عصر النضال يكون السياسي هو النجم. وفي عصر ازدهار الفنون، يصبح الفنانون نجوم المجتمع.. وعندما عشنا عصر كرة القدم، كان لاعبو كرة القدم هم النجوم”.
ويضيف “في عصر عاشت فيه المجتمعات العربية الحوار السياسي على مدى الربع قرن الأخير كان النجوم هم أقطاب برامج التوك شو الذين فازوا بكل شيء، بالأموال والشهرة والنجومية! إلى أن انطفأت هذه البرامج الحوارية وضاع بريقها.. فانطفأت نجومية من كانوا يقدمونها.. والذكي منهم ترك الحواريات وغيّر نوع نشاطه إلى غيرها من البرامج! الآن دخلنا عصر نجومية الشيفات”!.
ويضيف خبراء إنه عصر التفاهة، فهو عصر الفاشينستات بلا منازع. فقليل من التركيز في ما يصلنا بشكل يومي على مواقع التواصل الاجتماعي نجد أن التفاهة تأخذ حيّزا كبيرا من المحتوى، هنا عالم التافهين الذين لا ينجحون بحياتهم وتلمّعهم مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام عبر تضخيم الأنا لدى أشخاص لم يصنعوا إنجازات في حياتهم، هم سطحيون وثّقوا سخافتهم، حتى العقل الواعي أصبح في حالة من النوم فأصبح لا يميز الصالح من الطالح، لذا تجد أكثر ما يصلك من مقاطع ونصوص عبارة عن صراخ أو موقف حول الحمقى لنجوم تتخاطفهم الأضواء وينجذب أبناءنا على أن هؤلاء من يكتسبون منهم القيم والأخلاق.
تقليد التافهين
باتت الناشئة مهووسة بمختلف المشاهير والفنانين على تلك المواقع بشكل دائم ومبالغ فيه وحتى مرضيّ في الكثير من الأحيان، فنجد التقليد الأعمى لهم من أسلوب اللباس والشعر وطريقة التصوير وحتى العادات الخاصة بهم. ولا تنحصر صناعة التفاهة في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، حتى وإن ظلت مصدرها الأول بلا منازع.
ويتأسس نظام التفاهة في عصرنا الحالي على الاستسهال والتقليد، واحتوت جدرانه الفرد معدوم الموهبة، فهو الأقدر على مواكبة التسطيح ومسايرة المعايير المتدنية المحبّبة للقاعدة الأكبر من الناس.
وبصفة عامة، أقصي الملتزمون بالمعايير الرفيعة أو أصبح وجودهم هامشيا إلى حد ما، إذا قارنا حجم المحتوى الجيد بالسيء. وأفسحت متطلبات العصر الحالي المرتبطة بالكم وسرعة إنتاج المحتوى المجال لغياب الإتقان وتفشي الرداءة، حيث يظل التقييم بأيدي أناس إما مفلسين فكريا وإما متهكمين يساهمون في نشر المحتوى بمشاركته واستعراض أنهم أكثر علما وأرقى ذائقة، عن جهل منهم.
ويؤكد المفكر الكندي أن التفاهة قد بسطت سلطانها على كافة أرجاء العالم. فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصل والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام.
ويدق الخبراء ناقوس الخطر للعواقب الوخيمة المترتبة على هذه السيطرة المحكمة للتافهين في كل المواقع. وهم يشرحون بشكل مفصل كيف مدت التفاهة أذرع سيطرتها في كل اتجاه وفي كل ميدان. بدءا من الميدان الأكاديمي وصولا إلى السياسي، مرورا بالاقتصادي والتجاري والمالي والإعلامي والفني.
هل يمكن للنخب أن تفعل شيئا في وجه التدمير والتخريب الممنهجين، إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا وبيئيا وأكاديميا وفنيا؟
ولا تظهر التفاهة بشكل فجّ وصادم ومباشر كما تظهر في ميدان الفنون، فلا بأس من إلصاق ممارسات شاذة وغريبة بالفن من أمور لا تمت إلى الفن بصلة. والطامة الكبرى في هذا الميدان تكمن في الترويج لقضايا تزعزع أسس المجتمعات وتنسف ثوابتها وعوامل اللحمة والاستقرار فيها. فليس من الضروري كي تكون “فنّانا” في نظام التفاهة أن تمتلك حيثيات ومهارات معيّنة، وأن تكون عندك رسالة لتؤديها أو كلمة نافعة لتقولها. قل أسخف السخافات، وتشدّق بأكثر الخرافات لا معقولية، ولا عليك، فهذه هي البوابة المثلى لدخول عالم الفن بكفالة نظام التفاهة وضمانة أربابه. أما الفنان الحقيقي فيختفي، إذ أن المطلوب هو فن بلاستيكي يُنتج سلعا فنية لا تعكس سوى صورة التفاهة الاقتصادية.
دور النخب
يعوّل خبراء على الدور الذي من الممكن أن تؤديه النخب المثقفة، التي عجز عن سحقها نظام التفاهة، فنأت بنفسها عن مؤسساته، وانسحبت من أكاديمياته. هذه النخب، على الرغم من قلّتها وندرتها وتشرذمها، لا تزال قادرة على أن تفعل شيئا في وجه التدمير والتخريب الممنهجين، إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا وبيئيا وأكاديميا وفنيا.
ويرى كثيرون أن النقابات والاتحادات كانت ستكون منصات تثقيفية فاعلة لولا غرقها في مشاكل السياسة. وأصبحت النقابات هي القلعة التي تحتمي بها الطبقة السياسية وتناضل من داخلها ضد النظام السياسي وقد أحدث هذا تقليدا شاذا منذ البداية لم يكن أحد يريد أن يسمّيه هو أن النقابة قد شكلت بديلا عن تطور المجتمع السياسي وأجّلت النضال السياسي الحزبي فتشوهت الساحة السياسية وتشوّه النضال النقابي، لذلك كان على النظام السياسي أن يفاوض النقابة بصفتها حزبا سياسيا فتلبي له مطالب سياسية تحت مسمّى نقابي (مطلبي).