التفاعل وقيود الجماعات المتخيّلة

لا يكون جانب التشارك أو التفاعل تجريبا، بمعنى ما، بل يصبح تجريدا للمبدع ودفعا له إلى سجن إرضاء الجماعة المتخيّلة.
الاثنين 2019/01/07
عوالم الإبداع غير المحدودة (لوحة: هيلدا حياري)

يبدو التفاعل غاية من الغايات التي يسعى إليها الأدباء والفنّانون في أعمالهم التي يحرصون فيها على أن تجذب المتلقّين إليها، وتحرّض لديهم الرغبة في إبداء الرأي، أو اقتراح بعض الخطوط التي يعتقدون أنّها قد تضيف لتلك الأعمال، أو تزيد جماليتها وتضفي عليها مزيدا من القوة والإبداع.

هل يمكن أن يكون التفاعل أداة استدراج من قبل الأديب أو الفنّان لقّرائه وجمهوره؟ كيف يمكن للمتلقّي أن يشارك في صياغة العمل الأدبيّ إذا كان روائيا أو قصصيا أو شعريا مثلا؟ هل يتواصل مع صاحبه قبل النشر، وكيف له أن يطّلع على العمل قبل إنجازه ونشره؟ هل يمكن أن يستوعب العمل الإبداعي اجتهادات المتلقّين التي قد تشوّهه؟

لعلّ ما يوصف بالتفاعل هو سمة من سمات العروض الحيّة، كأن يكون هناك عرض مسرحيّ أو فنّيّ ما، ويكون مفتوحا على الاجتهاد ويفسح مجالا للجمهور كي يدلوا بآرائهم بحيث يقودون العمل في هذا الاتّجاه أو ذاك، فيبدأ صاحب العمل بالتغيير والإضافة بحسب الاقتراحات التي قد يقتنع بها، والتي قد تساهم بإشراك الآخرين وجعلهم جزءا من اللعبة الإبداعية.

تحدّث بعضهم عن الرواية التفاعلية، وبرزت محاولات خجولة غير ناضجة على وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث اقترح بعضهم، ممَن حاول خوض تجربة الكتابة التفاعلية والتشاركية مع القرّاء، البدء باقتراح خطوط ومحاور لعمله، ووضع بؤرة الحكايات، أو شراراتها، بحيث تكون مفاتيح لجذب القارئ ودفعه إلى الكتابة ومحاولة إتمام الصياغة، والبحث عن تخريجات فنية لائقة، أو حبكات مفترضة..

ويبدو في هذا الإطار، أنّ من باب التعذّر بلورة صيغة متكاملة لعمل يمكن أن يوصف بالتشاركي، أو ذاك الذي يدفع المتلقّي للتفاعل وإبداء رأيه، ذلك أنّ مسارات العمل الإبداعيّ تكون موضوعة من قبل المؤلّف بإتقان واقتناع، وهي تحتاج منه إلى خبرة للسير فيها وإتمامها كما يفترض بها أن تكون، وأي تدخّل قد ينزع عنها حميميتها، ويخرجها عن سياقها الإبداعيّ، ويفرض عليها قيودا بذريعة أنّها آراء تراعي اختلاف الأمزجة والخلفيات والرؤى.

لا يكون جانب التشارك أو التفاعل تجريبا، بمعنى ما، بل يصبح تجريدا للمبدع ودفعا له إلى سجن إرضاء الجماعة المتخيّلة.. وربّما لا ينطبق القول الشائع: لولا اختلاف الأذواق لبارت الأسواق، على العمل الإبداعيّ الذي يستلزم خصوصيّة فريدة في بنيته وأساسه، ومحاولة إخراجه من عالمه، وفرض إيقاع الجماعة والمؤسسة المفترضة عليه، أو إفساح المجال أمام الآخرين لتغييره وفق ما يرونه أفضل وأنسب، تشكيك بقدرة الفرد على إبداع متجاوز يتخطّى حدود عقول مجتمعة، ويخرج من تحت أسقف الإرضاء والتراضي إلى فضاءات الانطلاق نحو عوالم الإبداع غير المحدودة.

15