التفاتة حكومية لأطفال التوحد في تونس بعد سنوات من التجاهل

بعد سنوات من التهميش حظي أطفال التوحد في تونس بلفتة من الحكومة تمثلت في تخصيص اعتمادات بقيمة 700 ألف دينار من أجل تقديم خدمة دمجهم في رياض الأطفال، ما يساعد على تحسين قدراتهم على التغلب على مشكلة تأخر النطق واكتسابهم تقنيات التواصل مع الآخر مثل أقرانهم الطبيعيين. وستشارك في تنفيذ هذه الخطة وزارتا المرأة والصحة، وسيتم قبول دفعة أولى من 300 طفل.
تونس ـ عانى أطفال التوحد في تونس على امتداد سنوات من تجاهل السلطات لهم، فهم ليس باستطاعتهم الدخول إلى المدارس الحكومية مثل أقرانهم الطبيعيين، ما اضطر أهاليهم إلى وضعهم في مراكز مختصة غير مراقبة، كانت في الكثير من الأحيان سببا في تدهور حالتهم الصحية والنفسية، كما تفرض هذه المراكز مبالغ مجحفة على الأهل ممّا زاد من تعميق الأزمة.
ومؤخرا حظي أطفال التوحد بلفتة من الحكومة تمثلت في السماح لهم بدخول مؤسسات الطفولة المبكرة، ما يساعد على اندماجهم مع محيطهم واكتسابهم تقنيات التواصل مع الآخر وتنمية قدراتهم على التغلب على مشكلة تأخر النطق.
وفي خطوة أولى من البرنامج الوطني لفئة الأطفال ذوي طيف التوحد، سيتم قبول دفعة أولى من 300 طفل في سن 3 و4 و5 سنوات لمدة سنتين متتاليتين، وتتكفل الدولة بخلاص معاليم التربية ما قبل المدرسية للأطفال ذوي طيف التوحد والمساعدة على إدماجهم عبر تحويل منح للمؤسسات العمومية والخاصة المشاركة ضمن البرنامج قيمتها 200 دينار لكل طفل شهريا تتوزّع بين 100 دينار لخلاص معاليم المؤسسة التربوية و100 دينار لخلاص معاليم مقوم النطق أو أخصائي العلاج الوظيفي حسب حاجة الطفل وبصفة شهرية.
وبيّنت آمال الحاج موسى وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن أنّ هذا البرنامج الوطني، والذي يخصّ لأول مرة في تونس فئة الأطفال ذوي طيف التوحد، يندرج في إطار الإستراتيجية الوطنية متعددة القطاعات لتنمية الطفولة.
وقالت في تصريح إعلامي إن الوزارة خصصت للبرنامج الوطني اعتمادات بقيمة 700 ألف دينار لسنة 2022 من أجل تقديم خدمة دمج أطفال طيف التوحد في رياض الأطفال العمومية التابعة للوزارة والتي يبلغ عددها 30 روضة إلى جانب رياض القطاع الخاص.
وأضافت أنّ الوزارة وضعت بالتعاون مع الجمعيّة التونسيّة للطّبّ النّفسي للأطفال والمراهقين برنامج تكوين ومرافقة لفائدة الإطارات التربوية، إلى جانب صياغة دليل المربي للتعهد بالأطفال ذوي طيف التوحد وتقديم الدّعم للأسر من خلال الإنصات والتوجيه والتوعية والتعهد، معلنة أن الوزارة ستعمل على إنجاح هذا البرنامج الوطني النموذجي وتوسيع نطاق تنفيذه حتى يشمل أكبر عدد ممكن من الأطفال ذوي طيف التوحّد.
ووقّعت بلحاج موسى ووزير الصحة علي مرابط الجمعة الماضية بالمركز المرجعي لتنمية الطفولة المبكرة بالعمران على منشور مشترك حول صيغ قبول الأطفال ذوي طيف التوحد بمؤسسات الطفولة المبكرة وتم في مرحلة أولى تسجيل 303 طفل وسيتضاعف هذا العدد في السنة المقبلة ليبلغ نحو 600 طفل ذوي طيف التوحد.
ويضبط هذا المنشور المشترك صيغ قبول مطالب دمج الأطفال من ذوي طيف التوحد بإحدى مؤسسات الطفولة المبكرة الدامجة والتي تتم دراستها من طرف اللجنة الجهوية لبرنامج النهوض بالطفولة المبكرة باستشارة الطبيب رئيس المصلحة الجهوية للطب المدرسي والجامعي، وطبيب الوحدة الجهوية للتأهيل، كما يمكن لرئيس اللجنة دعوة طبيب نفسي للأطفال أو أخصائي نفساني أو مختص في تقويم النطق عند الحاجة.
وحسب المنشور ذاته، فإنه يُقبل الأطفال من ذوي طيف التوحد دون غيرهم مع التأكيد على قابليتهم للدمج ضمن التقرير الطبي المصاحب للملف، برياض الأطفال ومؤسسات الطفولة العمومية والخاصة بقرار من اللجنة الجهوية المذكورة وذلك بعد دراسة ملف الطفل.
وأعرب وزير الصحة مرابط، في تصريح إعلامي، عن التزام وزارة الصحّة بتحسيس منظوريها بأهمية هذا المنشور المشترك وضرورة تنفيذ مقتضياته بما يضمن السّرعة والنّجاعة في عملية تسجيل هذه الشريحة في مؤسسات الطفولة المبكرة، مبيّنا أهمية الاستثمار في العنصر البشري وتعزيز البرامج الوقائية والعلاجيّة لفائدة أطفال تونس.
وبيّن أنه سيتم الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تقصي طيف التوحد بصفة مبكرة وإدماج أطفاله في رياض الأطفال، معلنا عن برنامج آخر للتقصي المبكر في عمر السنة الأولى حول طيف التوحد وذلك بالتزامن مع تلقيح الأطفال.
ولفت إلى أن الشراكة مع وزارة الأسرة والمرأة في المنشور المشترك لدمج أطفال طيف التوحد في الحياة ما قبل المدرسية تتمثل في المعاينة الطبية والمراقبة والمتابعة.
ويعيب العديد من الحقوقيين في تونس على الدولة تنصلها في عدة ميادين متعلقة بالرعاية الصحية لأطفال التوحد، مؤكدين أن الإجراءات الحكومية المتعلقة بالعناية بهم تكاد تكون منعدمة.
ومع غياب مراكز حكومية تخضع للرقابة التعليمية والصحية والنفسية، وجد عدد من أولياء أطفال التوحد أنفسهم مضطرين للتوجه إلى مراكز خاصة تعمل بطريقة عشوائية خارج القانون والرقابة وتوظف مربيات بلا مؤهلات علمية وبعضهن تورطن في سوء المعاملة بحق الأطفال.
وفي العام 2008 تحوّل موضوع أطفال التوحد إلى جدل في الأوساط التونسية بعد تداول مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو مسربة من داخل مؤسسة خاصة تظهر إحدى المربيات وهي بصدد تعنيف طفل مصاب بمرض التوحد، مما أدى إلى موجة كبيرة من الشعور بالغضب بأوساط الرأي العام ودفع السلطات للتحرك.
الدولة ستتكفل بخلاص معاليم التربية ما قبل المدرسية لأطفال التوحد عبر تحويل منح للمؤسسات الحاضنة لهم
ونتيجة لذلك، أذنت النيابة العامة في المحكمة الابتدائية بأريانة بإيقاف مديرة المؤسسة ومربيتين أخريين في السجن بتهمة “التعذيب وسوء معاملة قاصرين والاعتداء بالعنف على الطفولة” بعد شكاوى تقدمت بها بعض عائلات الأطفال المرضى بالتوحد.
ويعيب رئيس جمعية حقوق الطفل معز الشريف على الحكومة عدم توحيد جهود وزاراتها المعنية بالاهتمام بهذه الفئة المهمشة أو إنجاز قاعدة بيانات موحدة بشأنها، مستغربا من عدم وجود إحصاءات رسمية عن عدد المصابين بمرض التوحد في بلد طالما كان مشهودا له في القارة الأفريقية من حيث التقدم الطبي.
وبحسب رئيس الجمعية التونسية للنهوض بالصحة النفسية شمس الدين حمودة، فقد أنجزت في تونس آخر إحصائية عن التوحد قبل عام 2010، وتركزت الدراسة التي أنجزها المستشفى الجامعي في المنستير على مدينتي المنستير والقيروان (وسط) وكشفت أن هناك مصابا بالتوحد من كل مئة طفل.
لكنه يقول إن بعض الدراسات العلمية الحديثة كشفت أن هناك طفلا يصاب بالتوحد من بين كل ستين طفلا، مبينا أن هناك أسبابا عديدة تقف وراء انتشار المرض المتمثل في إصابة الأطفال صغار السن بمجموعة من الاضطرابات السلوكية المتعلقة بالتواصل الاجتماعي واللغوي في الدماغ.
ويرى حمودة أن معضلة إصابة الأطفال في سن مبكرة بمرض التوحد لم تثر اهتمام الدولة التونسية التي لم تقدم أي عناية لهم بسبب تنصلها من النفقات، مشيرا إلى أن المراكز الخاصة لرعاية الأطفال تحولت في غفلة من الحكومات إلى مصادر للربح والجشع.