التغير المناخي ينبئ بقيامة تراجيدية يتجاهلها الكتاب والفنانون

السينما والأدب والتلفزيون والفن التشكيلي مطالبة بخلق ثقافة بيئية.
الجمعة 2022/12/02
واقع مخيف تتحاشاه الفنون بالوهم

مع احتدام المخاطر المناخية المتزايدة على كوكب الأرض، والتي تهدد الحياة فيه بشكل جدي، ازداد اهتمام الفنانين والكتاب والمبدعين بموضوع المناخ، في محاولة منهم لنشر الوعي بضرورة الحفاظ على الكوكب وإيجاد الحلول للمشاكل التي تهدده، ولكن رغم ذلك تبقى الأعمال الفنية التي تهتم بالبيئة قليلة، بل هناك أعمال فنية تقف ضد البيئة.

باريس - بينت التجربة أن الأعمال الروائية على الشاشة، أكانت السينمائية الكبيرة أو التلفزيونية الصغيرة، علاوة على الأعمال الأدبية والقصص المصورة وغيرها من الفنون، قادرة على تغيير الآراء والتوجهات لدى مشاهديها وقرائها في مجالات عدة، لكن تأثيرها هذا محدود نسبيا في ما يتعلق بالتغير المناخي.

ورغم وجود بعض الأعمال الفنية والإبداعية سواء المكتوبة أو المسموعة أو المصورة التي تهتم بقضايا المناخ فإنها ما تزال عاجزة عن إبلاغ رسالتها وإحداث التأثير المرجو نظرا إلى قلتها من جهة وهامشيتها من جهة ثانية.

من بين 37453 عملا سينمائيا أو تلفزيونيا أخضعها باحثون من جامعة “ساذرن كاليفورنيا” للتحليل، وحدها 1046 عملا (2.8 في المئة) تحوي مرادفات خاصة بالمسائل المناخية، فيما ذكر 0.6 في المئة من الأعمال ما هو مرتبط بالتغير المناخي.

وتقول أنا جاين جوينر، وهي مؤسسة شركة “غود إنردجي” المتخصصة في توفير معلومات لكتاب السيناريو في شأن المسائل المناخية، إن “غالبية الأفلام والعروض التي نشاهدها تجري أحداثها في واقع مواز يغيب فيه التغير المناخي، مما يعزز وهما معينا لدى المشاهدين”.

وشكلت الأعمال الروائية المصورة أداة ذات تأثير قوي في كسر المحرمات وتغيير العقليات، في مواضيع عدة. وتشير إيريكا روزنثال من جامعة “ساذرن كاليفورنيا” إلى أن بعض “الكتاب المهتمين بمسألة التغير المناخي قد يعتقدون أن الجمهور لن يتأثر بهذا الموضوع، لكن ذلك غير صحيح”.

وتولت هذه الباحثة في أعمالها دراسة الطريقة التي يكوّن فيها المشاهدون علاقات تنطوي على “تفاعل ما وراء اجتماعي” مع الشخصيات التي تظهر على الشاشة وتلفت نظرهم إلى أفكار جديدة وأشخاص جدد، ويمكن أن تغير الممارسات المرتبطة بالهجرة أو إدارة الأسلحة مثلا.

وتلفت أنا جاين جوينر إلى أن “الكثيرين يشعرون بقلق عميق من التغير المناخي، لكنهم نادرا ما يتطرقون إلى ذلك”، مضيفة أن “ذكر هذه المسألة ولو بصورة مقتضبة وعفوية خلال أحد الأعمال، يثبت أن هذا القلق مسألة عادية”.

وقد تأتي بعض النوايا الحسنة بنتائج عكسية، بحسب جوينر، التي تشير إلى فخين رئيسيين يتمثلان في الرؤية الكارثية التي يمكن أن تؤدي إلى الإحباط، والشخصيات الواعظة التي تلاحق الآخرين للتخلي عن سياراتهم الفارهة ومظاهر الثراء. وتقول جوينز “لا أحد يحب أن يتلقى توبيخا أو لوما”.

استغلال السينما

مبادرات بسيطة قد تحدث نتائج أفضل
 الوعي الفردي مهم للغاية في حماية البيئة

ومن شأن مبادرات بسيطة أن تحدث نتائج أفضل، من خلال شخصيات تعبر عن قلقها بشأن ما يخص المناخ فتستقل وسائل النقل العام ولا تهدر الأطعمة. وتقول روزنثال “نرى قصصا كثيرة تتمحور حول ظواهر الطقس الحادة، لكن نادرا ما يجري ربطها بموضوع التغير المناخي، مع أنها خطوة من السهل جدا اتخاذها”.

وقلة من الأفلام التي تناولت هذا الموضوع تركت أثرا في أذهان المشاهدين، باستثناء فيلم “ذي داي أفتر تومورو” الذي يعود إلى نحو عشرين عاما وتولى إخراجه رولاند إمريك. وعام 2021، خصص مهرجان كان السينمائي فئة من الأفلام المشاركة فيه والتي تتناول مواضيع البيئة، إلا أن خطوته هذه لم تتكرر في دورات لاحقة.

وفي فرنسا، “عادة ما تتطرق الأعمال السينمائية إلى المواضيع النفسية وبالأحرى البورجوازية مع رابط بعيد عن الطبيعة”، بحسب فيرونيك لو بري، وهي متخصصة في السينما ونشرت أخيرا دليلا يضم “100 فيلم يتناول مواضيع الكوكب”.

أما الأعمال الهوليوودية، فكانت تتطرق منذ أول أفلام الويسترن إلى العلاقة بين البشر والطبيعة. وتقول لو بري “إن أول أعمال الويسترن كانت تتناول السيطرة على الأراضي، لكن سرعان ما دخلت فكرة أن تدجين الأراضي لا يعني بالضرورة تدميرها”. وبدأ التغيير مع التطرق إلى الخشية من الأسلحة النووية، وبدءا من العام 1958 تناول المخرج نيكولاس راي مسألة حماية التنوع البيولوجي في فيلم “ويند أكروس ذي ايفيرغلايدز”، تلته بعد مدة طويلة أعمال بينها “إيرين بروكوفيتش” (2000) و”وول – اي” (2008) و”دونت لوك أب” (2021).

◙ غالبية الأفلام والعروض التي نشاهدها تجري أحداثها في واقع مواز يغيب فيه التغير المناخي مما يعزز الوهم

وقد يسمع الكثيرون – وهم غير مكترثين – بمفردات من قبيل: الاحترار العالمي، ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجو، ظاهرة غازات الدفيئة، ظاهرة النينيو.. إلخ، ولا يكاد يرف لهم جفن، إذ هناك تقصير معيب في أداء الأفراد إزاء هذه الظواهر، فعلى الرغم من كثرة المواد الإخبارية والإعلامية بشأن التغيرات المناخية الشاذة، إلا أنه لا بديل عن جهد فردي مواظب لمعرفة أدق تفاصيل هذه الظواهر ومساءلة الكيفية التي يمكن بها للفرد المساهمة في تقليل آثارها المهلكة، والفعل الجاد يأتي لاحقا للمعرفة الجيدة بكل أبعاد الموضوع وإلى حد معقول بالنسبة إلى المواطنين من غير المتخصصين.

ترى الكاتبة العراقية لطفية الدليمي أن البعض قد يظن أن ظواهر غريبة مثل هذه تستلزم جهودا عالمية وقدرات حكومية ضخمة ولن يكون دور الأفراد مؤثرا فيها، غير أن هذا خطأ كبير يراد منه التعتيم على دور الأفراد، مبينة أنه علينا ألا ننسى التأثير الجمعي للكتلة البشرية التي تتجاوز السبعة مليارات نسمة، أما ماذا يمكن للفرد أن يفعل في هذا الشأن فذاك موضوع قراءة اختصاصية، ولكن لا بأس من ذكر القليل المؤثر منها: ضبط استهلاك المياه، تقليل استخدام المحروقات العضوية، المساهمة في زيادة رقعة المساحات الخضراء، ترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية.. إلخ.

ونتبين من رأي الدليمي أن الوعي الفردي مهم للغاية في حماية البيئة، ولا أهم من الفنون والآداب في خلق وعي فردي بهذه القضية، رغم أن تأثيرها ليس آنيا فإنه يمكن أن يكون عميقا في الأفراد.

وفي اعتقاد الدليمي لا يعد الخوض في هذه الموضوعات ترفا؛ فقد تنبهت أغلب البلدان – المتقدمة والتي في طور الارتقاء – إلى خطورة هذه الظاهرة التي ستكون الظاهرة المؤثرة على مجمل السياسات العالمية في السنوات القليلة القادمة، وبلغ الأمر حد اعتماد ما يسمى بـ”الثقافة البيئية” التي تعد اليوم فرعا حيويا ضمن السياسات الثقافية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بلغ حدودا أكبر تتغلغل في معظم المفاصل الحياتية للمجتمع.

وتذكر الكاتبة العراقية أن نوعا أدبيا روائيا بات يدعى "الرواية البيئية" نال حظوة كبيرة في السنوات الماضية وظهرت روايات كثيرة جعلت البيئة ثيمة رئيسية لها، هذا فضلا عن الاهتمام التعليمي منذ المراحل المبكرة بتعليم الموضوعات البيئية بسبب المعرفة الاستباقية بخطورة الموضوع.

الأدب والفنانون

الوعي الفردي مهم للغاية في حماية البيئة
مبادرات بسيطة قد تحدث نتائج أفضل

ولا يقتصر الأمر على روايات عالمية فحتى عربيا ظهرت بعض الأعمال الأدبية التي تهتم بالبيئة نذكر آخرها على سبيل المثال رواية "وداعا نهر الموت" للكاتب اللبناني غسان شبارو، والتي تعتبر مقاربة سوسيولوجية للواقع اللبناني في ضوء التدهور البيئي الحاصل على مدى نصف القرن الأخير إلى اليوم. وبموضوعها هذا تضعنا الرواية أمام منعطف حاسم في تاريخ لبنان الحديث، وذلك عندما اختارت أن تطرح نفسها كـ"رواية تنويرية" في ظل الأوضاع البيئية المنهارة والهيمنة الأيديولوجية التي تمارسها الأحزاب على رافضي الأوضاع القائمة.

موضوع البيئة والتغير المناخي تتداخل فيه مجالات متعددة، إذ تتداخل السياسيات الفردية والحكومية في تركيبة فعالة لها هدف عملي محدد في ميدان الحفاظ على البيئة، ويحرك هذا التوجه ثقافة متكاملة ووعي راسخ بأهمية حماية البيئة وهو ما يمكن للمبدعين العمل عليه في أعمال فنية ولعل الفن التشكيلي أول هذه الفنون.

◙ الرؤية الكارثية يمكن أن تؤدي إلى الإحباط والشخصيات الواعظة التي تلاحق الآخرين لحماية البيئة تؤدي دورا عكسيا

وتتمثل استدامة الفن التشكيلي في استدامة مقاومة الفنانين بواسطة فنهم لكل ما يضر بالبيئة، لأن ما يتمتع به فن البيئة هو تلك القدرة التي تلهمنا من أجل تغيير وعينا الاجتماعي وتقويم سلوكياتنا، كما يحثنا على إحداث تغيير حقيقي في محيطنا لتعزيز الاستدامة البيئية التي تتلخص في تكريس ما يحافظ على الكوكب، والوعي بخطورة ما يهدده، وبالنتيجة ما يهددنا أيضا، وكان فايروس كوفيد – 19 نموذجا على ذلك، ويمكن اعتباره تحذيرا للبشر ليغيروا سلوكهم تجاه بيئتهم، لأن الفايروسات تنشط وتتكاثر وتتنقل مع التلوث البيئي وتعتبر سببا أساسيا في التغير المناخي.

ويقوم الفنانون التشكيليون اليوم بدورهم من خلال أعمالهم الفنية لنشر الوعي بضرورة نهج أسلوب حياة أكثر استدامة، فنجدهم من خلال قوة خيالهم وأدواتهم يلفتون الانتباه إلى الواقع الذي لا يمكن إنكار الضرر البيئي الحاصل به، مع تأكيدهم على الحاجة إلى أسلوب حياة مستدام، فيركز بعضهم على إعادة النظر في وسيطهم الفني فيتبنون وسائط أكثر استدامة، مثل الفن سريع الزوال وفن الأرض والفن المعاد تدويره أيضا.

لكن تبقى جهود السينمائيين والكتاب والفنانين التشكيليين والمبدعين عموما قاصرة وقليلة للغاية تجاه التغيرات الكبيرة التي تتسارع، وتضع البشر على أعتاب كارثة بيئية خطيرة ومدمرة ستزداد مفاعيلها في السنوات القادمة، تهدد الوجود الإنساني بمواجهة مشهد قيامي مريع في القرن الحادي والعشرين، بينما يتجاهل الجميع ذلك.

13