التعليم الموازي يهدد بانهيار التعليم الرسمي

يدق كتاب “التعليم الموازي بالوطن العربي في ظل اقتصاديات السوق” للدكتور شبل بدران والصادر أخيرا عن الدار المصرية للكتاب، ناقوس الخطر ويرسل رسالة تحذير مدوية ـ قبل فوات الأوان ـ أن انتبهوا، منظومة تعليم متردية، ومدرسة مهمشة، وتلميذ حائر ومعلم بائس، وأسرة مثخنة بالجراح، مثقلة بالهموم، تئن تحت وطأة دروس خصوصية تثقل كاهلها وتعمق التفاوت الاجتماعي، وترسخ مظاهر الطبقية والتمايز بين الأسر وتهدر مبدأ تكافؤ الفرص. هكذا اختلّت المنظومة التربوية وجنح التعليم عن مساره الحقيقي، وصار الحفظ والتلقين جواز المرور إلى الجامعة.
يكشف الكتاب، بالإحصاءات الموثقة، حجم المعاناة من التعليم الموازي والدروس الخصوصية في مصر، مؤكدا أنه من تداعيات الاقتصاد الحر وتقليص دور الدولة ومسؤولياتها، فضلا عن تنازلاتها للقطاع الخاص في الاستثمار في مشروعات الخدمات التعليمية، زيادة عدد المدارس والجامعات الخاصة بصورة غير مسبوقة، وتجاوزت الجامعات الخاصة في مصر الجامعات الوطنية التي أنشئت أولاها عام 1908. وفي العراق أنشئت أول جامعة وطنية عام 1950 وفي السعودية أنشئت أول جامعة وطنية عام 1957 وفي الكويت افتتحت جامعة الكويت عام 1966 وفي الإمارات أنشئت أول جامعة وطنية عام 1977.
وأضاف أن كل ذلك رافقه تعميق في الازدواج التعليمي بين حكومي وأزهري وخاص واستثماري ولغات وأجنبي، ولم يقتصر الأمر على حدود التعليم ما قبل الجامعي، بل إن الأمر استفحل إلى الدرجة التي استطاعت معها الفئات والطبقات الاجتماعية الصاعدة أن تنشئ لأبنائها قنوات تعليمية خاصة بدءا من الحضانة حتى الجامعة، وجعلت هناك نظاما تعليميا مرتبطا بالقدرة الاقتصادية والمادية لبعض الفئات والطبقات ليسمح لها ولأبنائها بمواصلة تعليم خاص أو أجنبي من الحضانة إلى الجامعة، وبالطبع فخريجو هذا النوع من التعليم يمثلون النخبة هم الذين سيتاح أمامهم فرص العمل والأجر المرتفع.
وهكذا، ووفقا للدكتور بدران، استطاعت تلك الفئات والطبقات الاجتماعية الصاعدة، بالتوازي مع تلك القنوات، أن تجعل من “التعليم الموازي” وهو تعليم مدفوع الأجر وآلية خاصة توازي نظام التعليم الرسمي، و”مدرسة موازية” توازي المدرسة الحكومية، أو ما يسمى شعبيا “بالدروس الخصوصية”، تلك الآلية التي أجبرت بقية الفئات والطبقات الفقيرة في المجتمع على اتباعها كوسيلة للنجاح والحصول على الدرجات المرتفعة التي تؤهل للالتحاق بالكليات المتميزة أو كما تسمى “كليات القمة”.
التعليم الموازي والدروس الخصوصية يشكلان فيروسا أصاب كل بلدان الوطن العربي وكل فئات مجتمعه
وأشار د.شبل بدران إلى أن التعليم الموازي والدروس الخصوصية يشكلان فيروسا أصاب كل بلدان الوطن العربي وكل فئات المجتمع العربي، ولم يبق أمام الفقراء سوى ما قامت به الحكومات العربية في إطار المنافسة على الدروس الخصوصية بما يسمى “مجموعات التقوية” في مصر التي تتم داخل جدران المدرسة، وبعد انتهاء اليوم الدراسي بكل أعبائه، وادعت الحكومات أن ذلك تخفيف على الفقراء من سعر حصص الدروس الخصوصية، وكأنها أضفت شرعية على التعليم الموازي، وفي الجزائر تقدم الحكومة “حصص الدعم المجانية” في المدرسة لمساعدة الطلاب أصحاب الدرجات المنخفضة. وفي السعودية تقدم الحكومة “مجموعة تقوية” بمقابل مادي كما في مصر، وفي تونس تقدم دروس دعم للتلاميذ بأجر رمزي، وفي العراق تقدم “دروس تقوية” لجميع المواد عبر التلفزيون.
ورأى د.بدران أن انتشار التعليم الموازي في الدول العربية يعود للأسباب التالية: أولا ضغط الإنفاق العام، ثانيا تحديد أعداد المقبولين في الكليات، ثالثا تردي المستويات التعليمية، رابعا اضطراب سوق العمل واختلالاته، خامسا ظهور تفاوت ضخم في مستويات الكسب بين المهن المختلفة وبين القطاعين التقليدي والحديث، سادسا تراجع مستوى الدخول الحقيقية للمدرسين، إضافة إلى التغيرات المتعددة التي رافقت التحول إلى اقتصاد السوق.
وأشار الكاتب إلى أن بيانات البنك الدولي لعام 2014 تكشف أن العالم العربي ينفق على التعليم 19 بالمئة من إجمالي الإنفاق الحكومي في المتوسط، وهي نسبة أعلى مما تنفقه منطقة جنوب شرق آسيا حيث يصل الإنفاق فيها إلى 14 بالمئة، وعلى الرغم من ذلك فإن نتائج التعليم ليست جيدة مقارنة بآسيا، فنحو 25 بالمئة من الطلاب في العالم العربي أميون والآخرون يدرسون في فصول مكتظة، ويعتمد التعليم فيها على الحفظ والتلقين في أغلب الحالات.
المعلمون ينشغلون بالدروس الخصوصية ويهملون واجباتهم التعليمية الأساسية في المدارس الحكومية الرسمية
ولفت إلى أن ما يميز ظاهرة التعليم الموازي في الوطن العربي مقارنة بالدول الرأسمالية الأكثر تقدما ـ تعليميا وعلميا وتقنيا ـ هو مساهمتها في تدهور نظام التعليم الرسمي، وذلك عندما يصبح التعليم الموازي بديلا للرسمي وليس مكملا له، كما في حالة الدول الأكثر تقدما، فينشغل المعلمون بالدروس الخصوصية ويهملون واجباتهم التعليمية الأساسية في المدارس الحكومية الرسمية، بل أحيانا يتقاعس المعلمون عن تدريس المنهج بشكل جيد طمعا في دفع التلاميذ إلى الحصول على دروس خصوصية تطلعا لدعم مرتباتهم الهزيلة، ومن ناحية أخرى، فإن تفاقم ظاهرة التعليم الموازي على هذا النحو يؤدي إلى إدمان الطلاب على تلك الظاهرة، وسرعة انتشارها بينهم واعتمادهم بشكل كلي عليها لا سيما في امتحانات الشهادات النهائية وتحديدا الثانوية العامة.
وطرح د.بدران واحدا وعشرين آلية لمواجهة المخاطر التي يطرحها التعليم الموازي، منها:
أولاها أن الأهداف المبتغاة من التربية والتعليم ينبغي أن تتحول إلى بناء إنسان حر قادر على التفكير النقدي وعلى الإبداع. ثانيها وفي إطار الازدواجيات السائدة في النظام التعليمي، هناك ضرورة ملحة وأساسية للعمل نحو بناء قاعدة ثقافية مشتركة في توجهاتها وقيمها العامة، وذلك في إطار المدرسة الشاملة التي تقضي على طبقية التعليم والتفاوت الاجتماعي.
ثالثا ديمقراطية التعليم وعدالة توزيع الفرص التعليمية، لأن تلك العدالة في توزيع الفرص التعليمية تعد من مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في مواجهة التفاوت الاجتماعي في المجتمع العربي الآن. رابعا اعتماد مفهوم الشجرة التعليمية بدلا من السلم التعليمي بحيث يتاح للطلاب الترقي الرأسي والتنقل الأفقي بين أنواع التعليم ومراحله دون وجود نظام للتعليم مغلق.
خامسا اعتماد التعليم المستمر حيث طرحت العولمة وتداعياتها المختلفة مفاهيم جديدة في مجال التعليم والتعلم، فهناك ضرورة جوهرية لاعتماد التعليم المستمر وتكامل التعليم النظامي الرسمي والتعليم غير النظامي. ومن الآليات الأخرى تحسين أوضاع المعلمين الاقتصادية وتطوير أساليب الامتحانات والتقويم بما يسمح بإعمال العقل النقدي، وزيادة عدد مقاعد الدراسة بالتعليم الجامعي وتحديث وتطوير المفاهيم لدى المستويات الإدارية العليا في التربية والتعليم بحيث تؤمن بخطوات التطوير وأهدافه وفلسفته نحو تقديم تعليم جيد النوعية وفعال.