التشكيلي موسى الحمد لـ"العرب": مفردات البيئة الفراتية عنوان تجربتي الفنية

بحث متواصل عن الذات بين عجائن الألوان ومتاهات الخطوط.
الثلاثاء 2024/11/05
الحمد فنان قلق وحائر

تنفرد لوحات الفنان السوري موسى الحمد بغنى أشكالها وألوانها ومدلولاتها، وهي تنمُّ عن ثقافة بصرية واطلاع على تجارب عالمية ومحلية، وهو في هذا الحوار مع "العرب" يعود بنا إلى بدايات شغفه بالتشكيل، ثم مراحل نضوج تجربته، ويقيم لنا المشهد التشكيلي السوري ونستعيد معه آراء بعض النقاد في مسيرته الفنية.

تراه باحثا عن اللون في معظم أعماله الفنية التي تجسّد الواقع الذي يعيشه، والتي تحاكي الطبيعة وسحرها وبشكل طاغ، وهو كما يؤكد الفنان ليوناردو دافنشي: “إنَّ الطبيعة لطفت بنا؛ لأنها جعلتنا نعثر على المعرفة حيثما أدرنا وجوهنا”، أي أننا نتعثر بالجمال، ويشير إلى ذلك أيضا الفنان الفرنسي غوستاف كوربيه  بقوله “الطبيعة هي المعلم الأول”، وهو هنا تراه أكثر ما يهتم بالألوان وعشقه الدائم لها، فترى أنَّ أغلب أعماله تطرح أفكارا لا يمكن للون أن يغيب عنها، وأكثر ما يقصد في الطبيعة التي يفضلها في الكثير من أعماله التي تعيش في وجدانه، وفي ضميره باحثا في ذلك عن اللون والمساحة والحركة.

هذه العناصر هي مكوّنات اللوحة بالنسبة إلى الفنان التشكيلي ابن مدينة الرقة السورية موسى الحمد، وهذه مجتمعة لا بدَّ أنها تكشف لنا عن أسرار الطبيعة وما تخبئه لنا، وأكثر ما يهتم به الجمال والمتعة، وهذا ما نجده في أغلب لوحاته من خلال الطبيعة وما تفيضه حركتها، وتجسده إيقاعاتها الموسيقية وسيمفونياتها اللونية، محاولا صياغة ذلك وفق رؤيته الخاصة.

لا جمال دون ألوان

اللون بالنسبة إلى موسى الحمد يعكس حالة عشق صوفية، وهو المتنفس الوحيد الذي يرى من خلاله العالم لينقله بصورة أبهى وأعمق وأجمل. واللون وحده يشكل حالة بصرية للعين التي ترى كل شيء أمامها، وتميز -بالتالي- الألوان، ولا جمال دون ألوان.

◄ اللون بالنسبة إلى الحمد حالة عشق صوفية وهو المتنفس الوحيد الذي يرى من خلاله العالم لينقله بصورة أبهى وأعمق
اللون بالنسبة إلى الحمد حالة عشق صوفية وهو المتنفس الوحيد الذي يرى من خلاله العالم لينقله بصورة أبهى وأعمق

إنَّ لوحات الفنان أكثر ما تضجّ بالألوان وخطوط الطبيعة، وهي قريبة إلى التجريد، وكل ذلك تصوير واقع الطبيعة في وادي الفرات، فضلا عن الأشكال الهندسية التي تجسّد التراث الفراتي على وجه التحقيق.

والفنان التشكيلي موسى الحمد، أكثر ما هو شخصية قلقة، حائرة تبحث عن ذاتها داخل الألوان، كما يقول عنه الفنان التشكيلي فواز اليونس، ابن الفرات الذي تعلم على يديه الكثير من الفنانين الذي أصبحوا فيما بعد من “شيوخ الكار”، وأبدعوا في هذا الميدان ومن بينهم الفنان التشكيلي الشاب.

في حواره مع “العرب” يحدثنا الفنان التشكيلي موسى عن أهمية اللوحة وماذا تعني الألوان بالنسبة إليه، فيقول “مع بداية نشأتي اخترت أبرز الفنانين في مجال الرسم، حينما كنت طالبا في المرحلة الابتدائية، بعدها اتبعت دورة في مجال الرسم انتهت بإقامة معرض فني شارك فيه عدد من الطلاب، وفي المرحلة الإعدادية أرشدني أحد المدرسين إلى مركز الفنون التشكيلية لبلورة موهبتي وصقلها”.

ويضيف “في عام 1982 وبعد قضاء ثلاث سنوات تخرجت من معهد الفنون التشكيلية بدرجة امتياز، وتعلمت الكثير من قواعد الرسم الأساسية على يد الفنان الكبير والمعلم فواز عويد خليل. كان مركز الفنون التشكيلية بالرّقة عبارة عن كلية فنون مصغرة. بعد تخرجي اطلعت على أعمال كبار الفنانين في العالم. نسخت بعض اللوحات، وتعلمت من هذه التجربة، كما اطلعت على المدارس الفنية الحديثة والقديمة، وقرأت كثيرا عن حياة الفنانين المعروفين في العالم، فضلا عن أنّني عملت على دراسة عالم اللون ومزجه واستخراج ألوان جديدة”.

ويوضح أن كل ذلك أضاف إلى تجربته الفنية الكثير من المعرفة واكتساب الخبرة الفنية والمهارة في الرسم.

حالة متفرّدة

للفنان الحمد تجربة خاصة في الفن التشكيلي إذ يعتمد الرسم بالفرشاة وشفرة المشرط في أعمال الباستيل، وسكين الرسم في الأعمال الزيتية. عن هذا الجانب يقول “نلت الكثير من الشهادات التقديرية، وكتبت الكثير من المواد في النقد الفني، وسبق أن شاركت في أكثر من خمسة وثلاثين معرضا فرديا وجماعيا موزعة في الصالات العربية والأجنبية، وأنا عضو مؤسس لتجمع توتول الفني في الرّقة، وكنت المسؤول عن معارض هذا التجمّع وتنسيقها”.

ويتابع “رسمت أكثر من ثلاثمئة لوحة عن الفرات مأخوذة من البيئة الفراتية، كما رسمت الكثير من العادات والتقاليد التي تخصّ مدينة الرّقة، وعالجت ذلك باتباع عدد من المدارس الفنية كالواقعية والتجريدية والرمزية والانطباعية، وأحيانا مزجتُ بعضها مع بعض، باختيار شيء جميل من مدرسة ما وتوليفها بمدرسة جديدة تُسمى الانتقائية”.

عن علاقته مع نهر الفرات وارتباطه به، يقول “رصدت طبيعة الفرات وشواطئه من خلال سفينة يدوية على طول سرير النهر لمسافة خمسين كيلومترا، كما اطلعت على المناظر الطبيعية لنهر الفرات ومنطقة الكسرات من سفوح جبال الرّقة إلى المنخفضات، وهذا ما يُسمى بمنظور عين الطائر، وزرت قرى الرّقة والبادية وغيرها ما يعني أنها شكلت بالنسبة إلي انطباعات وتصورات جديدة باتجاه الفن وتقديم هذه التصورات؛ إما من خلال الرسم مباشرة، أو من خلال ما كنت أتخيله عن تلك الطبيعة والعادات والتقاليد وغيرها. وإن هذا المخزون في التصورات وتطوير الأعمال برؤية غير مألوفة وخبرتي في معرفة عالم الفن أضافت لي الكثير، وخاصة البصمة الفنية أو الأسلوب الذي لا ينسب إلي، أي يمكن أن تعرف إهماله دون التوقيع عليه، فضلا عن أنني خبرت أسرار الطبيعة والفن، والمزاجية والارتجال والتكنيك والحرية والمرونة في الرسم، وهذا ما قادني إلى حالة التفرد عن زملائي الفنانين في الرّقة التي أعيش فيها اليوم”.

المرأة في أعماله

◄ توثيق للحياة في الرقة
توثيق للحياة في الرقة

عن حضور المرأة في أعماله يقول موسى الحمد لـ”العرب”: “للمرأة الفراتية حيّز كبير في لوحاتي الكثيرة، حيث رسمت المرأة في كل المواقع، ودرست لباسها وعملها وما تقوم به في حياتها اليومية، كما رسمتها بأسلوب واقعي، ومن أهم اللوحات على سبيل المثال ‘المرأة التي تخبز على الصاج’، و’الورّادة على نهر الفرات’، و’لوحة قطاف القطن’، و’المرأة التي تحمل الطفل في كارتها’، و’حوار النساء في الطبيعة’، و’تلك المرأة التي تحلبُ الغنم’، و’التي تتأمل الأحلام من خلال الوردة’ وغيرها”.

ويضيف “رسمت لوحات تتعلق بالبادية والقبب الطينية المعروفة في منطقة الفرات”.

واهتم الفنان الحمد بالمفردات التراثية القديمة، حيث تناولها بحداثة فنية ومزيج متداخل يعكس نظرة الفنان وما يتصوره أو يتخيله لهذا التركيب المتقن، وقد أبدع في تكوين وجمال ألوانها. ومن هذه الأعمال التي لاقت اهتماما وذوقا رفيعا لوحة تحكي عن الربابة، وأخرى عن الفانوس، والبيت القديم، وتطريزات تتضمن أشكالاً هندسية ونباتية وغيرها.

ومن الإنجازات التي عمل عليها في الفن التشكيلي، يقول “لقد نشّطت الحركة التشكيلية بالرّقة، وخاصة ما يخص تجمّع توتول للفنون الذي مازلت أديره وأشرف عليه، كما ساهمت في شغل العديد من الأعمال عن الانتفاضة، وأقمت مجموعة معارض مع زملائي في تجمّع توتول، وعملت على تعليم الأطفال دون سن العاشرة الرسم لمدة شهرين، ودرّبت الفئة الشبابية فيما يخص تعلم الرسم فوق الخمسة عشر عاماً، ونجحت في كل المشاريع التي خضت تجربتها، وكان النجاح دائماً نصب عيني. ومن الأعمال التي قمت بها أيضاً رسم الكثير من اللوحات الجدارية في مدينتي الرقة”.

شخصية فنية قلقة

◄ الفنان اهتم بالمفردات التراثية القديمة حيث تناولها بحداثة فنية ومزيج متداخل يعكس ما يتخيله لهذا التركيب المتقن

 

عن الأعمال التي شارك فيها الفنان الحمد ومعرضه الذي أقيم في معهد ثربانتس الإسباني بدمشق يقول “في بحور الألوان وخضمّها ومتاهات الخطوط ومساراتها وعبثية الأشكال وفوضويتها سبحت ضد التيار، حائرا بين شطآن كثيرة، كل منها يغريني بالدنو منه والرسو فيه والتزوّد من معينه بضمّة من جمال وعبق من شذى وعصارة من لون”.

سألناه، ترى هل سيجد الفنان التشكيلي موسى الحمد مرساة أخيرا أم أنه سيظل مرتحلا في لُجج الألوان وعجائنها مسافرا عبر خطوطه اللانهائية، راسما أشكالا واقعية أحيانا وأخرى تجريدية وفوضوية عبثية تلقائية؟ فأجاب “من خلال استقرائي لبعض الأعمال التي شاركت فيها ألحظ أن ألوانها زغردت، وتلاشت خطوطها، وصهلت أشجارها وزهورها في أجواء كرنفالية تعجّ بالألوان وتزخر بالمتناقضات، ولكنها مصرّة على السير معا لتغري المشاهد بالاقتراب منها والدخول إلى عوالمها والتلذّذ بمباهجها. لتذكرنا بعوالم الانطباعيين المتأخرين، وأخرى تشابكت خطوطها وتقاطعت أشكالها وامتزج التشخيص بالتجريد فيها في قوالب رياضية أحيانا وعبثية فوضوية أحيانا أخرى، تنمّ عن رغباتي المكبوتة، لعلي لا أغالي إن قلت إنني أمام شخصية فنية قلقة حائرة تبحث عن ذاتها بين عجائن الألوان ومتاهات الخطوط”.

مسكون بالهمّ!

بقي أن نقول إن الفنان التشكيلي والناقد صفوان فرزات، قال إن “الفنان موسى الحمد يُجسد الطبيعة، فهو مثال قصيدة جميلة، مفرداتها الألوان. وأراد الفنان لأعماله أن تكون جزءا من ذاكرة المشاهد، ومعزوفة موسيقية تداعب الإحساس وتنشد الحلم. هذا التأليف المنسجم والمتناغم بتقديري جاءا نتيجة البحث المستمر في عالم اللون وخصوصيته المؤثرة. الباحث في منظومته اللونية لا بد أن يكتشف حرص الفنان على اشتقاقات لونية جديدة، فيها الكثير من الشفافية والدعوة إلى التعمّق والتأمل”.

أما الدكتور النحات والناقد محمود شاهين، عميد كلية الفنون الجميلة في دمشق، فقال إنّ لوحات الفنان التشكيلي السوري موسى الحمد “تنتمي إلى حداثة فنية تمتد إلى أكثر من جسر وإلى التراث الزخرفي الإسلامي، وفي لوحات غنية بأشكالها وألوانها ومدلولاتها من الإشارات والرموز. وتنم عن ثقافة صاحبها البصرية واطلاعه المكثف على التجارب العالمية في التصوير الحديث”.

ومن أبرز خصائص تجربة الحمد -كما يؤكد الناقد محمود شاهين- “التململ الواضح فيها، ورغبة المواءمة والتوفيق بين معطيات تراثية محلية ومعطيات التصوير العالمي الحديث، وهي الإشكالية. الهمّ الذي يؤرق عمل الفنانين العرب على امتداد ساحاتهم، ومنهم الفنان التشكيلي السوري المسكون بهذا الهم!”.

 

14