التشكيلي العراقي عمار داوود ومغامرة إحياء التراث الروحي

تفرض قواعد الرسم المعاصر الاهتمامَ بخطابِ الصورةِ البصرية، وعلى هذا الأساس يتصاعد استخدام الوحداتِ الصوريةِ، مع تعدد ِالدلالةِ في زوايا ومتنِ السطحِ التصويري. وبما أننا متلقون وقراء للفن فنحن أمام مسؤوليةِ فهمِ وتعريةِ تلك الوحداتِ ومعرفةِ أشكالهِا أولا، وأهدافهِا ثانيا. ولهذا، ثمة نقائضُ كثيرةٌ، تواجهُ الناقدَ والمتلقي للرسمِ ليوضحَ ملامحَ ولمسةَ الفنِ، وحتى تدرجِ الألوانِ، بالإضافة إلى الهيئاتِ التشخيصيةِ التي تتضحُ بمهارةٍ في العملِ الفني، ثم نصلُ لنظامِ العلاماتِ وقدرتهِا الإيصاليةِ.
وكل ذلك، يتحققُ لنا جراءَ تعريةِ الصورةِ والاستعانةِ بمعرفةِ وأهميةِ الوحداتِ العضويةِ في منظومةِ الرسوماتِ، وبما أن الغالبَ من الفنانين ينظرُ لفاعليةِ الرسمِ وممارستِهِ كنوعٍ من اللعبة ِوالمتعةِ الروحيةِ فلا غرابةَ أن ينسحبَ أمرُ تلك اللعبةِ للدخولِ في بواطنِ التصوفِ والولوجِ لمتنِ الحكاياتِ التراثيةِ ومن ثم التعلقِ بحساسيةِ مفرطةٍ في متنِ التوظيفِ الروحيِّ لتراثِ أمّةٍ إنسانيةٍ معينةٍ، يعاينُ الفنانُ من خلالهِا المستوى الموضوعي الحاد والمرسومَ له في سياقِ الدلالةِ القابعةِ في اللوحاتِ، أو من خلالِ تلقائيةِ التعبير.
فهل توصّلَ الفنُ المعاصرُ ليبدي لنا قدراً من أهميةِ المحاكاةِ الروحيةِ عبر معالمِ الرسمِ؟ وهل يبدو لجوءُ الفنانِ للتراثِ الروحي نوعاً من الهربِ من المحيطِ الماديِّ.. أم هو خيارٌ ذهنيٌّ وعقائديٌّ استولى على كيانِ الفنانِ واستطاعَ أن يتصدى له بأسلوبٍ وتقنيةٍ معينةٍ لينتجَ خطاباً صورياً ذا مدلولٍ معينٍ وليصبحَ فيما بعد وجهةً من التنظيرِ والتطبيقِ ولمسةِ أسلوبيةِ معينةِ بصاحبِها؟
|
هذه الأسئلةُ التي تواجهُني مع هذا التقديمِ تنطبقُ كثيراً على ما تفتعلُه التكويناتُ الشكليةُ وحقلُها الدلاليُّ في أعمالِ عمار داوود من ترابطٍ ومزامنةٍ لجوهرِ الإشارةِ السيميائيةِ ووسيطِها التعبيريِّ فهي مزيجٌ من تعددٍ لدلالاتٍ غامضة تنطلقُ من وظيفتِها البنائيةِ وواضحةٍ كلما عرفنا تحولَها الوجدانيَّ.
كلُ تلك العلاماتِ، بمختلف ِمستوياتِها ومضمونِها وتأويلِها، يتحققُ فعلُها البصريّ وفقاً لنظامٍ دقيقٍ من تجاورٍ لعناصرَ متعددة قد يبدو فيها تناقضاً مع مشتركاتِ عضويةِ لكنها تنسجمُ من حيثُ موجباتُها البنائيةٌ وجوانبُها الجماليةُ فتلتقي مكوّنة شكلاً مطلقاً متناثراً في مساحات اللوحةِ ومتنِها.
تلك الوحدات العضوية (الصورية) تتداخلُ في حساسيةٍ مشوبةٍ بالشكِ حيالَ أهدافِها هل هي روحيةٌ صارمةٌ يتوجبُ أن نعي غايتها وسرّ اهتمام صاحبها برسالتها السيميائية؟ أم توزيعُها البنائيّ الصارم تمت معالجتُهُ ضمن منطقِ حساسيةِ التأثيرِ البصريِّ والانجرارِ وراء متعةِ الشكلِ فقط؟ لهذا نشاهدُ تعدداً في الأشكال ِواختلافاً في الخطوطِ وتصعيداً لدلالاتٍ تملأ اللوحةَ، مع أن هناك خيالا لتناسخِ الروحِ واللعبِ على شفراتٍ وأيقوناتٍ تخصّ الخرافةَ والأسطورةَ والرغبةَ في التحليقِ وراء هلاميةِ الأرواحِ والقبضِ على تمثيلِها صورياً.
مستوى المعالجةِ الشكليةِ مع عمار داوود يختلفُ مع غيره فهو يأتي للرسمِ بوسائطَ تنظيميةٍ وإدراكٍ ماسكٍ لجذرِ الفكرةِ وعليه سنجدُ التزاماً فكرياً بقضيةٍ روحيةٍ ربما تبدو لنا مسيحيةً حينا ومخاطبةً لروحٍ ملائكيةٍ حينا آخر، ومن ثم التصعيد الباطني وصولا إلى أجواء الرموز الصوفية. المهم أن هناك خطابا لتأمل تقلّبات الروح والتعامل بهدوء مشوب بالحذر معها، فهو يبجّل الحسيات والماورائيات وكأنه يلوذ بمتعة سلب الروح والتحليق في مناخها، هذه الطريقة في الرسم وفّرت له أن يحاصر نفسه بواجهات علاماتية اختصها لنفسه ثم تحولت الخطوط المتعرجة والمستقيمة والألفة في طريقة مزجها لتفرض مراوغة من التجريد الشكلي بما يسمح لخطاب لوحته بالتحرر من قيود تعارض أنظمة علامات أشكاله، وهي تفعل هذا التناقض جراء سلطة الإرادة أولا ولاحترافية هذا الفنان فهو يقبض على كنوز المعرفة الروحية ويصرّ على أن يجعل من نزعته هذه ظاهرة في استثمار الحكايات الصوفية.
لكنّ التساؤل هنا هو هل تجاري لوحاته بكل ما أوتيت من بنائية وتعدد لعناصر ولوازم شكلية، حمولة النص التراثي؟ هذا السؤال القلق هو الفكرة التي يطرحها متلقّي لوحاته، أما كيف أخذ بسياق ذلك النص وكيف مثلّه فتلك مساحة الفعل العملي له. فما يخصنا ليس المغامرة إنما التوظيف ومقاومته لنزعة الحداثة في العمل مع الوثوق بنجاحه وهو يسعى لعودة التراث.
|
هذا الفنان يجد مواءمة بين أيقونات متنوّعة فيتأثر بخاصيتها الروحية ومحتواها الدلالي ثم يعمل على استخراج أيقونة ظاهرية يعي تمثيلها فتوضع في متن السطح بينما تحيطها عناصر وخطوط في مستوى يمهّد لملامستها أو الارتباط بها. ولكن في الحقيقة تنجرّ تلك الأشكال المختلفة في محيط اللوحة وراء محاكاة المتن فتبدو هامشا يتداول التغريب بينما مركزية اللوحة تحقق نهجها البصري وعلامتها المنشئة، ومن هنا يستثمر شعورا حسيا وهو يبدي لنا توزيع صياغة تلك الأشكال حتى وإن اختلفت في طريقة التوزيع.
المهم أنها تمهد لغايتها.. ولكن ما غايتها هنا؟ ينبغي أن نعرف ما المطلوب من لوحات غارقة في سيل من التشخيصية والخطوط المتعرجة والأشكال الهندسية المصمّمة بأجزاء صغيرة ومتناهية الحجم مع أشكال نباتية وكأنّها زخارف لفنّ إسلامي مندثر، ووجوه لحيوانات مختلفة أعتقد أن الغاية منها أخذنا للتعامل مع إثارة الروح وتبدّد مطلقها بما يمثل شقّا صوفيا يتغلب على الحسيات فلا ينفصل التشبيه والاستنساخ والمحاكاة إلا بنزعة تأملية على نحو ما تفرضه السمة الإنسانية من نزعة في التعالي ومخاطبة المخيّلة، وهنا أجد نفسي أمام خيارات تجدّد العودة للأصول الأولية لتكوين الإنسان واتساع نطاق الإرث الروحي له حتى وإن كان شغوفا ومتمسّكا بإرادة الحياة.
ولعل هذا التصور يجذب من يريد إعادة تأمّل كيانه وكيفية خلقه والارتهان إلى لحظة الشعور بآدميته، فهل تحقق ذلك مع رسومات عمار داوود.. إنه السؤال القلق؟
كاتب من العراق