الترجمة من وسيلة ثقافية إلى وسيلة اقتصادية ضرورية

تركيا تستغل الترجمة كقوة ناعمة لنشر منتجاتها وثقافتها وفنونها.
الأحد 2023/09/24
الدراما تروّج للثقافة التركية

منذ القدم مثلت الترجمة وسيلة ضرورية لقيام كل الحضارات القوية التي تحقق رخاءها بانفتاحها على غيرها وبالتالي كانت التراجم وسيلة للتواصل الثقافي والأدبي والفكري، ولكن هناك وظيفة أخرى للترجمة وهي الوظيفة الاقتصادية التي ربما أهملها الكثيرون، إذ مثلت الترجمة وسيلة اقتصادية هامة، ومازالت إلى اليوم تمثل رافدا هاما في عالم التجارة العالمية وأيضا باعتبارها قوة ناعمة.

بينما كنا والأسرة نشاهد أحد الأعمال الدرامية التركية، لا أذكر جيدا ما إذا كان العمل مدبلجا أم مترجما إلى اللغة العربية، بادرتني زوجتي بسؤال، وبحكم أننا نقيم في إسطنبول منذ عدة سنوات، مفاده أنه إذا لم تترجم الأعمال التركية إلى لغات متعددة هل كان العالم من مشرقه إلى مغربه قادرا على فهم هذه الأعمال؟ وهل كان منتجو الأعمال الدرامية قادرين على تسويقها للعالم دون ترجمة لتلك الأعمال؟

هذا ما قادني إلى مجموعة من التساؤلات باعتبار أن بيع الأعمال التلفزيونية التركية أو السينمائية صارت من أهم مصادر الدخل للدولة التركية، حيث ذكرت وكالة الأناضول التركية أن حجم مبيعات المسلسلات التركية للعالم تجاوز مبلغ 500 مليون دولار أميركي في العام 2018، وذكر موقع “العربي الجديد” أنه من المتوقع أن حجم تلك المبيعات قد يصل إلى مليار دولار في العام الجاري 2023، وهذه أرقام جديرة بالتأمل والتحليل.

إضافة إلى ذلك فترجمة تلك الأعمال تلعب دورا حاسما وكبيرا في تعزيز القوة الناعمة لتركيا، وهذا ما سنذكره لاحقا، كما وسنحلل كيف للترجمة أن تساعد في تمكين القوة الناعمة للدول والمؤسسات.

الترجمة والاقتصاد

الترجمة أصبحت أسهل وأسرع إذ تأثرت بالعولمة، حيث أصبحت لغات العمل والتجارة تتقاطع بشكل أكبر

بدأت عملية الترجمة في العالم قبل آلاف السنين، وتطورت تدريجيا على مر العصور، حيث تمت ترجمة النصوص من لغة إلى أخرى لأغراض دينية، وأدبية، وعلمية في العصور القديمة، ثم تمت ترجمة الأعمال الفلسفية، والعلمية الكلاسيكية اليونانية واللاتينية إلى لغات أوروبية مختلفة.

ولعبت هذه الترجمات دورا كبيرا في تفسير الأفكار الكلاسيكية ونقلها إلى العالم الإسلامي وأوروبا في العصور الوسطى، ثم جاء عصر النهضة في أوروبا والذي قدمت فيه الترجمة دورا ملموسا في ترجمة العديد من الأعمال اليونانية واللاتينية إلى اللغات الأوروبية الحديثة، وهو ما ساعد في انتشار أفكار النهضة وتقدم الفهم الإنساني والعلمي مع تقدم التكنولوجيا ووسائل الاتصال في العصر الحديث.

أصبحت عمليات الترجمة أسهل وأسرع، كما تأثرت الترجمة بالعولمة، حيث أصبحت لغات العمل والتجارة تتقاطع بشكل أكبر اليوم، حيث تلعب الترجمة دورا حاسما في تيسير التواصل بين الثقافات واللغات المختلفة، وتسهم في نقل المعرفة والثقافة والأفكار عبر الحدود باعتبارها أداة أساسية في التفاعل الدولي والتبادل الثقافي والاقتصادي، حيث لعبت الترجمة تاريخيا دورا هاما في تطور الاقتصاد والتفاعلات الثقافية بين مختلف الشعوب، فكانت الترجمة تستخدم لنقل المعرفة والأفكار بين الحضارات المختلفة، مما ساهم في تطور العلوم والثقافة، فتاريخيا كانت الترجمة ولا تزال عاملا حيويا في تعزيز التفاهم بين الشعوب والتبادل الاقتصادي العالمي، وقد ساهمت في تكوين العالم كما نعرفه اليوم في العصر الحديث.

هناك العديد من الأسباب التي تجعل عالم الأعمال في حاجة ماسة إلى الترجمة منها الوصول إلى الأسواق الدولية حيث تسمح للشركات بالوصول إلى أسواق جديدة حول العالم، ويمكن ترجمة مواقع الإنترنت والمواد التسويقية لاستهداف جمهور دولي وزيادة فرص النمو، وكذلك التواصل مع العملاء الدوليين، فالشركات في حاجة إلى التواصل بفعالية مع العملاء الدوليين الذين يتحدثون لغات مختلفة وذلك يشمل التفاوض على الصفقات وتقديم خدمة العملاء بلغات متعددة، ومن ثم العمل على بناء الشراكات الدولية والتحالفات وتوضيح الشروط والاتفاقيات.

ترجمة اللغة التركية إلى لغات مختلفة ساعدت وساهمت في انتشار المنتجات والخدمات التركية في العديد من الدول

كما تساهم في نقل المعرفة والتكنولوجيا بين مختلف أرجاء وبقاع العالم، وهذا يتطلب معرفة دقيقة للغات الشركات المصنعة للتكنولوجيا الحديثة، وكذلك حاجة الشركات والدول إليها من أجل ترجمة الوثائق المالية والقانونية بهدف التزام تلك الدول والشركات بالمتطلبات وامتثالها للقوانين واللوائح المنظمة لقطاع الأعمال سواء كانت القوانين واللوائح محلية أو دولية، وهذا ما يتطلب معرفة وثيقة باللغات التي كتبت بها تلك القوانين واللوائح.

ولا ننسى أهمية الترجمة ودورها الحيوي في تسهيل السفر والتنقل بين دول العالم المختلفة بهدف إبرام العقود وعقد الصفقات المالية والتجارية والاقتصادية. كما لعبت الترجمة دورا مفصليا في ترجمة العديد من المعايير المالية التي يتطلبها قطاع المال والأعمال لتنظيم أعماله، فلولا تلك المعايير لكان من الصعوبة وجود أرضية مشتركة في قراءة وفهم وتحليل القوائم المالية لمختلف الشركات والمؤسسات المحلية والعالمية، فقد خلقت الترجمة تلك الأرضية الصلبة التي مكنت المهتمين بقراءة وتحليل القوائم المالية من خلال اعتماد لغة موحدة لتلك التقارير، وهو ما ساهم في اتخاذ العديد من القرارات الاقتصادية والمالية على مستوى العالم.

باختصار مثلت الترجمة جزءا أساسيا من إستراتيجية الأعمال العالمية، وتمكنت الشركات من الاستفادة من الفرص العالمية والتفاعل بفعالية مع العملاء والشركاء في جميع أنحاء العالم.

كما أن الترجمة تؤثر على الاقتصاد بشكل كبير، فهي كما أسلفنا تساعد في مهام التواصل بين الشركات والأفراد من مختلف الثقافات واللغات، مما يعزز التجارة الدولية وزيادة التبادل التجاري. كما تلعب دورا هاما في التسويق العالمي والإعلان، حيث يمكن أن تساعد في توصيل رسائل العلامة التجارية بفعالية إلى الجماهير الدولية، بالإضافة إلى تعزيز تجارب السفر العالمية وتسوق الأفراد وارتياد الجامعات والمعاهد وإكمال مسيرة الدراسة.

الترويج للسياحة

Thumbnail

تعزز الترجمة تحسين تجربة السياحة العلاجية وارتياد المستشفيات ومراكز الأمراض المختلفة التي لولا وجود الترجمة لما انتشرت وجهات علاجية في منطقتنا العربية كمملكة تايلند والهند وتركيا وألمانيا وغيرها من الوجهات العلاجية التي صارت مقصدا للكثير من سكان الوطن العربي وغيرهم.

 بالإضافة إلى ذلك نذكر قدرتها على تعزيز ونقل التجارب الطبية المتقدمة إلى مناطق متفرقة في أنحاء العالم. كما تبسط سيطرتها وسطوتها في عمليات التفاوض وتوقيع العقود وإنهاء الأعمال في بيئة متعددة اللغات، علاوة على ذلك دورها الهام والكبير في نقل المعرفة والأبحاث العلمية عبر الحدود، وتسهم الترجمة أيضا في التواصل الفعال مع الشركاء التجاريين والعملاء الدوليين، مما يعزز التجارة والاستثمار، ومما يسهم أيضا في التقدم التكنولوجي والاقتصادي، فالترجمة تسهم بشكل كبير في تعزيز التفاعل والتعاون الدولي وتوسيع الفرص الاقتصادية في العالم.

بالعودة إلى التجربة التركية واستفادتها من وجود عدد كبير من الأجانب على أراضيها، فقد ساعدت وساهمت ترجمة اللغة التركية إلى لغات مختلفة المنتجات والخدمات التركية في غزو العديد من دول العالم ابتداء من منطقتنا العربية ومرورا بالدول الأوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول. كما ساعدت في تعزيز فهم العملاء الأجانب للثقافة والقيم التركية، مما يزيد من فرص نجاح العمليات التجارية، كما ساهمت بشكل كبير في إنجاح الدبلوماسية التجارية التركية، وصارت تركيا بفضلها من أهم الشركاء العالميين في أفريقيا مع الصين والهند.

ولا ننسى دورها الفاعل في الترويج العالمي للسياحة في تركيا، حيث تعتمد الجمهورية التركية بشكل كبير على صناعة السياحة، وترجمة المواد السياحية تساعد في جذب السياح من مختلف أنحاء العالم. وباستخدام الترجمة بالشكل الحالي، تمكنت تركيا من تعزيز تواجدها في الأسواق العالمية وزيادة صادراتها، مما ساهم في تعزيز النمو الاقتصادي وتعزيز التفاعل مع العالم الخارجي، وإن كانت في حاجة إلى مضاعفة جهودها في الإبقاء على التواجد الأجنبي وتوعية المجتمع التركي بما ساهمت به ترجمة لغتهم للعديد من اللغات المستخدمة في أنحاء العالم المختلفة وما أضاف ذلك من قيمة مضافة للاقتصاد التركي، ما جعل من البلاد قوة إقليمية تجارية واقتصادية لا يستهان بها.

ومع إيماننا المطلق بأن تركيا وشعبها قادران على إحداث نقلة نوعية في الاقتصاد العالمي، وفي هذا الصدد لا أحد يستطيع نكران مقدرة الاقتصاد التركي على التكيف مع التحديات والصعوبات الكبيرة التي واجهها في فترات مختلفة واستطاع تجاوزها، إنما يجب التذكير بأهمية الالتفات وعمل جوائز عالمية للمصنفات والأعمال التي تترجم اللغة التركية إلى لغات عالمية أخرى بما يساهم في تعزيز وتطوير وتحسين جودة الأعمال الاقتصادية والتجارية والفنية التركية بما يمثل بعدا اقتصاديا ذا نفع على المجتمع والاقتصاد التركي.

تعزيز القوة الناعمة

الترجمة مهمة لعقد الشراكات
الترجمة مهمة لعقد الشراكات

على غرار التجربة التركية وغيرها من التجارب العالمية الأخرى التي استخدمت الترجمة أيّما استخدام في تشكيل وتحقيق نهضة اقتصادية، فإن الترجمة تلعب دورا هاما في تحقيق النهضة الاقتصادية في العديد من المجالات من خلال تعزيز التواصل، وتوسيع الأسواق، وتعزيز التعليم والتدريب، وكونها جسرا لتعزيز العلاقات الدولية، فالترجمة تسهم في تخفيف حواجز اللغة وتعزيز التفاهم الثقافي والاقتصادي، مما يساعد في تعزيز النهضة الاقتصادية كما ينبغي، حيث أن أهمية الترجمة وتأثيرها المباشر وغير المباشر على الميزان التجاري للدول يمثلان أداة قوية لزيادة الصادرات والواردات، وبالتالي فالترجمة تؤثر على الميزان التجاري إذا تم استخدامها بشكل فعال.

ويمكن للدول تحقيق توازن أكبر في هذا المجال من خلال زيادة صادرات الدول إلى دول العالم المختلفة بالتعرف على مزايا صادرات الدول، بالإضافة إلى كونها وسيلة لتحسين القدرة على التفاوض والتعاون مع شركاء دوليين بما يساهم في وصول الواردات الفعالة.

كما أن ترجمة المعلومات التقنية والتعليمات يمكن أن تزيد من قدرة الشركات المحلية على تطوير وتصنيع منتجات متطورة ومطلوبة عالميا، بما يؤدي إلى زيادة الصادرات وتحسين مواصفات المنتج المحلي وقدرته على المنافسة بالأسواق العالمية والدولية، ويمكن للدول تعزيز قطاع السياحة وجذب المزيد من الزوار الدوليين، فزيادة الإيرادات من السياحة تؤثر بشكل كبير، كما وتعزز الترجمة التفاهم بين الدول والثقافات، وتسهم في بناء علاقات دبلوماسية وتجارية قوية تؤثر بشكل إيجابي على الميزان التجاري.

الاقتصاد الإسلامي وما صار له من أهمية كبرى في كل العالم أيضا تأثر بالترجمة، حيث أنها لعبت دورا محوريا في تعزيز وفهم الاقتصاد الإسلامي وتطوره من خلال نقل مفاهيم ومبادئ الاقتصاد الإسلامي إلى لغات عديدة، وهو ما ساهم في تعزيز وفهم هذه المبادئ وتطبيقها في الاقتصاد العالمي. كما أنها لعبت دورا هاما في نقل مفاهيم الأخلاقيات والعدالة الاقتصادية في الإسلام إلى العالم بأسره، ممّا يشجع على ممارسات اقتصادية أكثر توجها نحو العدالة، ومن خلالها تم توفير الترجمة للعقود والاتفاقيات الاقتصادية الإسلامية بما سهل على الشركات والمستثمرين من مختلف الثقافات الاستفادة من فرص الأعمال والتعاون في الأسواق الإسلامية بشكل عام. وساعدت في نقل الأبحاث والمقالات الاقتصادية الإسلامية إلى لغات متعددة، مما عزز التبادل العلمي وعمّق فهم هذا النوع من الاقتصاد.

الترجمة لعبت دورا محوريا في تحقيق القوة الناعمة للعديد من الدول من خلال ترجمة الأعمال الفنية والثقافية

عند ترجمة الأعمال الأدبية والفنية والأفلام أيضا يتسنى للدولة أو المؤسسة تصدير ثقافتها وقيمها إلى جمهور أوسع من العالم، مما يعزز فهمهم لهذه الثقافة ويعزز تأثيرها الناعم وإضافة قيمة مضافة لاقتصادها، وهنا يجدر الذكر أن مسلسل “قيامة أرطغرل” والد مؤسس الدولة العثمانية على سبيل المثال حقق أرقاما قياسية في مبيعاته، حيث قدرت عدد مشاهداته بحوالي 3 مليارات مشاهدة، وتم عرضه في 85 دولة، وتمت ترجمته إلى 25 لغة، وتخطت إيراداته المليار دولار أميركي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الترجمة لعبت دورا محوريا في تحقيق القوة الناعمة للعديد من الدول من خلال ترجمة الأعمال الفنية والثقافية كما أسلفنا، بالإضافة إلى أنها مكنت المسؤولين الحكوميين والدبلوماسيين من التواصل مع العالم بلغات متعددة، مما يعزز الدبلوماسية الثقافية والسياسية ويسهم في بناء التحالفات، كما ساهمت في نقل المعرفة والتعليم عبر الثقافات، ما مكّن من تعزيز القوة الناعمة من خلال تطوير قوى العقل والتفكير، فالترجمة تلعب دورا حاسما في تعزيز القوة الناعمة عن طريق تسهيل التفاهم والتواصل عبر الحدود ونقل الفهم والثقافة والأفكار، حيث أنها  تعتبر أداة مهمة في بناء العلاقات الدولية، وتعزيز التأثير والتأثر الثقافي والسياسي.

إلا أن هنالك وجها آخر للترجمة لا يقلل من أهميتها، حيث أنه في بعض الحالات يمكن أن تكون الترجمة معيقة للاقتصاد والتجارة، حيث تترتب عليها تكاليف على الشركات والمؤسسات، وخاصة إذا كانت هناك حاجة مستمرة إلى ترجمة المستندات أو المواد، وهذه التكاليف يمكن أن تكون عبئا ماليا. كما أن عملية الترجمة قد تأخذ وقتا، وهذا يمكن أن يؤثر على السرعة في اتخاذ القرارات التجارية أو تسليم المشاريع.

 كما وأنه وفي حالات وجود أخطاء في عملية الترجمة فقد يترتب على ذلك سوء التفاهم، والذي بدوره سيؤثر بشكل كبير على الصفقات والعلاقات التجارية. وكذلك أيضا في بعض الصناعات مثل التكنولوجيا والأدوية، يمكن أن تكون هناك تحديات بسبب قوانين البراءات والملكية الفكرية التي تختلف من دولة إلى أخرى في بعض الحالات، كما قد تكون الترجمة في بعض الأحيان ذات جودة منخفضة، مما يؤدي إلى فقدان معنى النص أو تشويهه.

على الرغم من هذه التحديات، لا تعتبر الترجمة عاملا معيقا كبيرا بشكل عام، بل إنها أداة ضرورية للتفاعل الدولي وتوسيع الفرص التجارية، حيث يمكن التغلب على بعض هذه التحديات من خلال استخدام مترجمين محترفين والاستثمار في تكنولوجيا الترجمة الحديثة.

10