التدين الشعبي سلاح لمحاربة التطرف في مصر

الموالد أو الاحتفالات والمناسبا تتظل الركن الأساسي للتدين الشعبي بمصر الذي تحاول الحكومة ترسيخه كعنصر مكمل للجهود الأمنية والفكرية في مواجهة التطرف.
السبت 2018/11/03
التسامح الديني في الموالد قاعدة يمكن البناء عليها

القاهرة - لم يكن احتفال الطرق الصوفية بمولدي القطبين إبراهيم الدسوقي والسيد البدوي في النصف الثاني من أكتوبر الماضي، تقليديا كالمعتاد، فرعاية الحكومة المصرية كانت لافتة بالتأمين المشدد ونشر بوابات الدخول الإلكترونية، وفتح المجازر لذبح النذور، والسماح بإنشاء الخيام في أماكن غير كثيرة تبعد عن ساحات المساجد لمحاولة استيعاب الأعداد الضخمة التي بدأت تتزايد في العام الأخير.

وجاء التزايد بعد أن انخرطت مؤسسات حكومية في دعم التدين الشعبي بشكل عام، وعقب خفوت صوت التيار المتشدد، وتراجع هيمنة السلفيين الذين كانوا يعتبرون هذه التصرفات نوعا من المحرمات، ويحرضون ضدها لمنع انتشارها.

 

تراهن الحكومة المصرية على توظيف التدين الشعبي كوسيلة حيوية لتعزيز التسامح الديني في المجتمع، ومواجهة الجماعات المتطرفة. وبدأ هذا الاتجاه برعاية غير مباشرة لتذليل العقبات أمام الاحتفالات بالموالد الصوفية والمسيحية التي تشهد مشاركة ملايين المواطنين سنويا، ولا تتوقف عند تقديم التسهيلات اللازمة لتعميمها في عموم البلاد، بل وصلت إلى حد تعمد توجيهها كمدخل مهم لتوطيد علاقات المواطنة بين البسطاء.

تظل الموالد أو الاحتفالات والمناسبات الركن الأساسي للتدين الشعبي بمصر الذي تحاول الحكومة ترسيخه كعنصر مكمل للجهود الأمنية والفكرية في مواجهة التطرف، باعتباره لا يلتفت للاختلافات بين الديانات وغير معني بالمقارنات بين المذاهب والملل، ويضم قاعدة معتقدات متشابهة بين المسلمين والمسيحيين تتعلق بكرامات الأولياء واستحباب زيارة مساجدهم ومقاماتهم.

يمثل التسامح الديني في الموالد قاعدة يمكن البناء عليها لتعزيز هذا النمط من الدين، فخلالها يزاول مسلمون مهنة رسم الصلبان، والبعض يقدم نذورا وعهودا جرى قطعها، ومسيحيون يبيعون ويشترون مسابح وبخور أثناء احتفالات إسلامية أو يتطوعون لإعداد مشروبات لرواد خيام الصوفية في سلوك يتراوح بين سياحة الرزق، والتبرك ولو برموز تتبع دينا مغايرا.

في طنطا التي تبعد عن القاهرة 90 كيلومترا، يقف الشاب المسيحي بيشوي (25 عاما) في خيمة لإحدى الطرق الصوفية يقدم الشاي دون أجر لروادها الذين جاؤوا من الصعيد خصيصا قصد المشاركة في احتفالات مولد السيد البدوي، ويحرص على حضور الليلة الختامية للاستمتاع بأهازيج مدّاحي الصوفية المشاهير مثل ياسين التهامي، الذي تطغى على ابتهالاته العشق الإلهي.

لا ينشغل بال رواد الخيمة بديانة مضيفهم بل يصفونه بشاب “مخلص” جاء لخدمة صاحب المقام الذي سبق أن قاد جماهير المدينة مسلمين ومسيحيين لمواجهة الكولونيل الفرنسي لوفيفر أثناء محاولته غزو مدينتهم قبل 220 عاما، وإنما رؤوسهم مشغولة بالتمايل على نغمات الأذكار والابتهالات التي لا تفرق بين الأنبياء في المديح.

يتكرر المشهد ذاته في مولد السيدة العذراء بجبل درنكة في أسيوط (جنوب مصر) في أغسطس من كل عام، حينما يتجمع الشباب والأطفال المسيحيون لرسم الصلبان والقديسين على أذرعهم بإبرة صغيرة ممتلئة بسائل ملون ومتصلة بآلة وشم حديدية، لا يدققون في الهوية الدينية لمن يرسمونها، ولا يعنيهم وجود مسلمين بعضهم يحمل اسم محمد يزاولونها كمهنة موسمية.

يقول أبوالفضل الإسناوي، الباحث المتخصص في الشأن الصوفي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية لـ”العرب”، إن مصر تحاول خلق تجربة مغايرة في مواجهة التشدد باستحداث طرق صوفية جديدة كطريقة علي جمعة، مفتي مصر الأسبق، الذي يؤسس لصوفية علمية تجري تصحيحا يؤهلها لمواجهة التيارات المتشددة.

وقام جمعة بتأسيس الطريقة الشاذلية العليّة المحمدية على المنهج الصوفي الشاذلي، لكنها تعمل وفق منهج حديث يتعاون مع المؤسسات الدينية الرسمية لترسيخ الأفكار الإسلامية السمحة.

عجزت الجماعات الإسلامية، التي انتشرت أفكارها بقوة خلال حقبة السبعينات وما بعدها، عن مواجهة ثقافة التدين الشعبي رغم حملات الهجوم عليه بتحريم ممارسات التبرك وطلب النصرة أو تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، ربما لأنه يمثل الظهير المتسامح الذي يحمي التركيبة السكانية للمجتمع بمسلميه ومسيحييه من الاختلال، ولكون الإطار الفكري لبعض معتقداته يعود إلى عهد الفراعنة، كأناشيد أخناتون الذي يوصف كأول المتصوفين في التاريخ.

ينافس التدين الشعبي فكر الجماعات التقليدية بعدم التمترس وراء النص الجامد ومرونته مع الآخر أيا كانت جنسيته، فالكثير من أقطاب الصوفية بمصر لم يولدوا على أرضها أساسا.

التدين الشعبي ممارسة تلقائية لا يمكن إدارتها مؤسسيا، لكن يمكن للدولة دعم وجودها

ولا تختلف الموالد القبطية بمصر في طريقة الاحتفال والطقوس التي تصاحبها عن الصوفية، فالحاضرون من المسلمين والمسيحيين في مولد العذراء أهم الاحتفالات الشعبية القبطية، يتبادلون إنشادا مشتركا بـ”سبحان من خلق المسلمين والنصارى.. وعيسى وكل البرايا (الخلق)”، وحتى “يا سيدة.. يا أم الشموع الآيدة (المشتعلة)” التي يصدح صداها في الاحتفالات المسيحية ومولدي السيدتين زينب وعائشة، على حدّ سواء.

يضيف الإسناوي لـ”العرب”، أن الصوفية تيار إسلامي عاطفي متسامح، لا تلفظ أي ديانة سماوية وتعتبر أقرب التيارات الإسلامية لقلوب المسيحيين بمصر، وازداد الأمر توطيدا بتأسيس علاء ماضي أبوالعزائم، شيخ الطريقة العزمية، ما يعرف بلجنة التقارب المسيحي الإسلامي، كما يعتبر المسيحيون الصوفية نموذجا للإسلام المعتدل، الذي يرفض التيارات الدينية المتشددة.

صحيح أن التدين الشعبي ممارسة تلقائية لا يمكن إدارتها مؤسسيا، لكن يمكن دعم وجوده بوسائل متعددة كتغيير الواقع المالي للطرق الصوفية التي تتسم بالفقر على عكس السلفيين والإخوان الذين يتسمون بقدرات مالية كبيرة ذاتية من واقع عمل معظمهم بالتجارة والحصول على تمويل من تنظيمات مشابهة في المنهج بالخارج.

تعتبر تجربة مصر في التعاطي مع التدين الشعبي متأخرة حال مقارنتها بدولة مثل السنغال التي باتت الصوفية فيها أهم مؤسسة دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية، والمغرب التي تنتهج الصوفية كدبلوماسية روحية، تعمل من خلالها على نشر التسامح في الخارج.

يؤكد الإسناوى أن رؤية الحكومة المصرية خاطئة في نظرتها إلى الطرق الصوفية المُطرَّقة (التي تتبع طريقة بعينها)، فالأولى النظر إلى الصوفيين غير المُطرّقين (بضم الميم وتشدد الراء) الذين يتبعون شيوخا ذوي نفوذ اجتماعي بالمناطق الريفية والقبلية، ويقومون بأدوار في المجالس العرفية والمصالحات، وأعدادهم أكبر بكثير.

تواجه المراهنة على التدين الشعبي لنشر التسامح معضلة “الملاءة المالية” فتياراته عاجزة عن مزاولة دور اجتماعي بالشارع المصري على شاكلة صوفية السودان الذين أنشأوا المدارس والمستشفيات والمعاهد الدينية والجامعات، إلى جانب دعم الفقراء وتزويج المتعثرين، في أدوار شبيهة بما انتهجته جماعة الإخوان لنشر فكرها وكسب أرضية جماهيرية وقت تأسيسها بمصر.

يبدو الطريق ممهدا نحو دعم أكبر للتدين الشعبي بمصر، مع تزعم علي جمعة الذي يحظى بتقدير من مؤسسات الدولة، لطريقة صوفية جديدة، وتنصيب تلميذه الدكتور أسامة الأزهري، كمستشار ديني للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وصولا إلى رئاسة عبدالهادي القصبي، شيخ مشايخ الطرق الصوفية، لتكتل الأغلبية في مجلس النواب.

لا يكلف دعم التدين الشعبي للقيام بدور في نشر التسامح بمصر الخزانة المصرية أعباء ثقيلة، فيكفي منح الطرق الصوفية حصة من صناديق نذور المساجد الخاضعة لولاية وزارة الأوقاف التي حققت في العام المالي الحالي إيرادات تقترب من 1.5 مليار دولار.

20