التخييل والكذب
يعرّف لويس أراغون الرواية بفن الكذب الحق، جامعا بين ضدّين، الكذب والحقيقة، موحيا بأن الرواية كذب مصوغ بطريقة توهم بأنه حقيقة. فهل الفن الروائي كذب بالفعل؟ وإذا كان كذلك، فهل يمكن أن نقيم الحجة على افترائه؟ أم هو كذب من نوع خاص لا يحاسَب إلا على مدى تماسكه وقدرته على الإقناع؟
الكذب الروائي هو التخييل، أي ابتكار من وحي الخيال، قد يصحّ اعتباره كذبا بالمعنى الأدبي، كخلق على غير مثال، وليس بالمعنى الأخلاقي كرغبة متعمدة في تزييف الحقيقة. فقد يكون صورةً عن الواقع، كما في الرواية الواقعية، أو إيهاما به من خلال رؤية ذاتية لواقع ما.
وقد يكون دعوة إلى الحلم والهروب إلى عالم طوباوي، أو مواربة تتستر بالحكي في نقد أوضاع سياسية ودينية لاجتناب الرقابة، أو تعبيرا عن حقيقة وجودية وفلسفية كما في روايات سارتر وكامو.
وقد يكون أيضا تبسيطا لحقائق علمية معقدة، واستباقا لأخطار قد تهدد البشرية، وفي روايات الخيال العلمي خير مثال؛ وفي شتى الأحوال هو اشتغال على الواقع لجعله أقرب ما يمكن إلى الفهم، واقتراح تأويل له. وهذا كله لا يدخل في باب الكذب، لأن الروائي لا يبحث عمّن يصدّقه، بل عمّن يُنعِم النظر في أدبه لتبيّن معانيه، الظاهر منها والخافي.
إن التخييل والكذب شيئان مختلفان. فالأول هو محاولة للاقتراب من الحقيقة، يعلن عن نفسه وجنسه منذ الغلاف بأنه من وحي الخيال، وإن تشبه بالواقع، ينافس العلم في رغبة الإمساك بالحقيقة، وفي الأقل النظر إليها من زوايا أخرى، دون أن يستعمل أدواته، بغرض فتح باب آخر نحو تلك الحقيقة.
أما الثاني، أي الكذب، فإنه يختلف عن التخييل في هاتين النقطتين، إذ هو لا يعلن عن نفسه بل يخفي طبيعته، ولا يبتغي إظهار الحقيقة أو إدراكها، بل يهدف أساسا إلى تزويرها، وتغطيتها والتعتيم عليها، أو إزالة أثرها تماما.
أضف إلى ذلك مسألة إقامة الحجة، فالتخييل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقيم الدليل على تزييفه الحقائق، لأنه لا يدّعي نقل الواقع بأمانة، ولا سرد أحداث التاريخ سردا موضوعيا، ولا التثبت من هوية أبطاله كي نتأكد أنهم وجدوا بالفعل أم لا، حتى وإن استقى الروائي مادته من أحداث معلومة، على غرار تولستوي في “أنا كارنينا”، وستندال في “الأحمر والأسود”، وفلوبير في “مدام بوفاري”، ونجيب محفوظ في “اللص والكلاب”، أو من حقبة تاريخية محددة كما هو الشأن في رواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو.
كاتب تونسي