التخييل بين الكائن والممكن
استقر نظر نقادنا وأكاديميينا على ترجمة مصطلح fiction بالتخييل، للدلالة على العمل السردي القائم على الخيال واختلاق أحداث ووقائع وشخصيات للإيحاء بواقع ما. ورغم أن بعض الروائيين يصدّرون أعمالهم عادة بتنويه يؤكدون فيه أن أي تشابه بين أبطال رواياتهم وأحداثها مع أشخاص وأحداث حقيقيين هو مجرد صدفة، عادة ما يُتهمون باستنساخ واقع بعينه، وقد يقادون إلى المحاكم. والحق أن التخييل الأدبي، كما يبين الفيلسوف جان ماري شافير، لا يتعارض مع الوثيقة التاريخية أو التقنية، كما يتعارض الصواب مع الخطأ، لأنه ليس معاكسا للحقيقة ولا متماهٍ مع الواقع، بل هو يتلاعب بهما معًا.
وقد اتخذ مصطلح fiction، الذي يعني في أصله اللاتيني المحاكاة والاقتداء، عدة معانٍ، من بينها الوهم والخطأ والمراوغة والكذب. والكاتب يمزج بين تلك المعاني مجتمعة وبين تجليات الواقع، لعلمه أن القارئ يدرك منذ البداية أنه ليس مدعوّا لفرز الحقيقة من الخيال ولا الواقعي من المختلَق، بل يسلم نفسه للأحداث المروية باستمتاع، ويغوص فيها بلا تحفظ، شريطة أن يكون العمل مقنعا، يوهم بأن ما يقرَؤُه حدث أو يمكن أن يحدث على ذلك النحو على أرض الواقع، أو أن لأحداثه منطقًا يقبله العقل.
بيد أن مفكرين آخرين يذهبون إلى القول إن الموضوعية والحقيقة لا مكان لهما في العمل التخييلي، فنحن ننجذب إلى روايات الفنتازيا أو الخيال العلمي ونحن نعلم أنها خيال صرف، وأن أبطالها لا صلة لهم بالواقع، وأحداثها لا تستجيب إلا لمنطقها الخاص، والسبب أن ثمة ميثاقا قرائيا على رأي فيليب لوجون يجعل القارئ مهيَّأً لقبول ما يخرج عن المعتاد. فنحن ننشدّ إلى حكايات عجيبة كرحلات السندباد وغاليفر ومصباح علاء الدين ومغامرات سيد الخواتم ونحن نعرف سلفا أنها من وحي خيال مجنّح لا تعكس واقعا بعينه، ذلك لأن العمل التخييلي الأدبي هو بالأساس ميثاق ممكن بين مؤلف وقارئ.
ومن ثَمّ ينفي الفيلسوف والأنثروبولوجي فرنسوا فلاهو أن يكون “التخييل الأدبي” جنسا بذاته، ويؤكد أنه ليس سوى طريقة قراءة. فالنص الواحد في نظره يمكن أن يقرَأَه مؤرخ الأفكار وعالم الاجتماع والناقد الأدبي بطرق مختلفة، إذ هم يبحثون في تلافيفه عن آثار مرحلة، أو خصائص أسلوب، أو ملامح سوسيولوجية وأخلاقية، فيما القارئ العادي يقبل عليه لمجرد المتعة.
ولعل خير تعريف للتخييل ما ذكره إيطالو كالفينو في كتابه “دروس أميركية” من كونه “ذخيرة إمكانات، واحتمالات، وأشياء غير كائنة، ولم تكن، وربما لن تكون، ولكن كان يمكن أن تكون”.
كاتب من تونس مقيم بباريس