التخابر مع الأجنبي.. لا غريب ولا عجيب

الاثنين 2017/09/18

أصدرت محكمة النقض المصرية حكما بتأييد السجن المؤبد بحق الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، في قضية التخابر مع قطر. كما شمل الحكم تأييد إعدام ثلاثة أعضاء آخرين من جماعة الإخوان المسلمين في القضية نفسها.

وقد يقول قائل عراقيٌ إن هذا الحكم القضائي مسيس، ويدخل في خانة الصراع السياسي والأمني والعسكري بين الإخوان المسلمين وبين نظام عبدالفتاح السيسي.

وقد يقول أيضا إن الظروف السياسية المصرية مختلفة جدا عن الظروف العراقية، بحكم التوازنات القومية والطائفية والدينية والعشائرية والمناطقية المعقدة في العراق. نعم، قد يكون هذا صحيحا، ولكن لكل جريمة كان هناك عقاب، من أيام آدم وحتى اليوم.

فالتخابر مع جهات خارجية، خصوصا إذا كانت معادية، يعني في لغة المحاكم، في شرعة العالم المتمدن، وقوانين العشائر، نوعا من العمالة والخيانة والتآمر مع حكومات أو قوى أو أحزاب خارجية تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة التي قد تتعارض كثيرا مع مصالح وطن المتخابر.

وبرغم أن إسرائيل هي لأميركا بمقام الولاية الواحدة والخمسين، فإن قضية الجاسوس الأميركي جوناثان بولارد الذي قضى في السجون الأميركية ثلاثين عاما لقيامه بتسريب معلومات ووثائق لإسرائيل هي أكبر شاهد على ذلك.

كما أن الزوابع التي أقلقت الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ودوخته، وأطاحت ببعض كبار معاونيه، وتهدد ابنه حاليا، مبعثُها شكوكٌ لم تثبت قانونيا حول قيامهم بـ“التخابر” مع السفارة الروسية، أو مع شخصيات حكومية تابعة لروسيا.

وخبر الحكم القضائي المصري على رئيس الجمهورية السابق، محمد مرسي، يكشف هول الخلل الذي لحق بالعراق، ليس بحكومته وحدها، بل بشعبه العاجز عن الحركة، ذاته.

فقد أصابت جراثيم سرطان التخابر مع الأجنبي رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان والأحزاب والقبائل والحسينيات والمساجد والكنائس، حتى صار، في عرف المجالس الشعبية العراقية، وليس المحاكم وحدها، أمرا اعتياديا مسموحا به في دولةٍ ثلاثةُ أرباع رؤسائها ووزرائها وقادة جيوشها وأمنها ومخابراتها من حملة الجنسيات المزدوجة. بل قد يكون سفير عراقيٌ في أي بلد آخر، عربيا كان أو أجنبيا، مواطنا يحمل جنسية البلد الذي يمثل العراق فيه.

وأكثر من ذلك. عند أي خلاف جدي بين أطراف الحكم العراقي المتحاصصة يحجون لطهران وأنقرة وواشنطن والرياض لفض الخلاف.

ولدينا قضاة وقادة أحزاب وميليشيات ووزراء ورؤساء أقاليم، ينشرون صورهم وهم يصافحون قادةً كبارا في إسرائيل، دون خوف ولا حياء. وأكثر من ذلك. تعالوا نستعرض، معا، تاريخ الأحزاب الدينية الشيعية الحاكمة اليوم، وتاريخ بعض الأحزاب الكردية، والكثير من الأحزاب والعشائر والشخصيات السنية العراقية، ونتتبع، ليس فقط خيوطَ تخابرها مع مخابرات وجيوش خارجية، بل سجل حملها السلاح والقتال ضمن جيوش دول كانت وما تزال في حالة احتراب مع وطنها العراقي، بغض النظر عن عدالة تلك الحروب، وأسبابها ودوافعها.

ولا يُنكر أحدٌ من كل هؤلاء مشاركتَه في قتل ضباط وجنودٍ من جيش دولته. بل يباهي بها وينشر الصور القديمة له وهو يقف مدججا بالسلاح مع قادة عسكريين من جيوش أجنبية، من باب إظهار اعتزازه وفخره بـ“نضاله” من أجل أن ينتصر أعداءُ وطنه، ويحتلوا مدنه وقراه.

وقد سُئل قائد ميليشيا عراقية، مرة “مع مَن ستقاتل لو حدثت حرب بين وطنك العراقي وبين الجارة إيران”، فقال، بوضوح وصراحة وافتخار، “سأقاتل مع دولة الولي الفقيه”.

وليس هناك ضرورة لأن نستعرض تاريخ الطائفيين العراقيين (الشيعة) وندقق في حالات موالاتهم للنظام الإيراني ومناصرته، ظالما أو مظلوما، سواء كان الحاكمُ في إيران هو الشاه أو الخميني. فذلك التاريخ معلن وموثق ولا يحتاج لبحث وتنقيب.

وليس هناك ضرورة أيضا للحديث عن الجهات السياسية والدينية والعشائرية السنية وارتباطها الدائم بدول عربية أو بتركيا، وهي التي تجاهر بذلك، وتعده مظهرا من مظاهر قوتها لردع أعدائها من الطوائف والأديان والقوميات العراقية الأخرى.

ومن يريد مزيدا من البراهين والأدلة على ذلك عليه فقط أن يمنح ساعة واحدة من وقته ليشاهد فضائياتهم، ويستمع لإذاعاتهم، أو لخطبهم في جوامعهم ومقار أحزابهم ومضارب عشائرهم التي لا تنطفئ نار مناقلها، ولا تسكت دقات فناجين القهوة فيها.

أما أحزاب الأكراد والبعض من عشائرهم فلها تاريخ آخر طويل وأكثر متانة وأصالة في الاستقواء بالخارج، من أيام الملا مصطفى البارزاني وحتى أيام ورثته المحدَثين.

فلم تبق وزارة ولا دائرة مخابرات ولا سفارة أجنبية تعادي العراق وتعمل على تخريبه وإغراقه بالدم إلا كان فيها لواحد أو لمئة من قادة العمل السياسي الأكراد سفينة وشراع.

وذات مرة اعتبر كاكه كبير ما زال على رأس الوليمة، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، أن “نضال” الأكراد كان هو السبب في سقوط نظام صدام و“تحرير” الشعب العراقي.

فقال “لولا الثورة الكردية لما اضطر صدام لاستخدام القوة العسكرية ضد مدن وقرى في شمال العراق يقاتل فيها أو يختبئ بعض ثوارنا. ولولا عنفُ صدام ضدنا لما تحالفنا مع شاه إيران. ولولا تحالفُنا مع شاه إيران لما اضطر صدام لتوقيع اتفاقية الجزائر 1975. ولولا إقدام صدام على تمزيق اتفاقية الجزائر، فور سقوط نظام الشاه وتولي الإمام الخميني السلطة في إيران، لما اشتعلت حرب الثماني سنوات. ولولا حرب الثماني سنوات وأعباؤها الاقتصادية والسياسية لما أقدم على غزو الكويت. ولولا غزوه للكويت لما قررت أميركا إسقاط نظامه، وقد كنا نحن أكثر المتعاونين معها لتحقيق هذا الهدف الذي غير مجرى تاريخ العراق والمنطقة”.

فهل يحتاج الأمر، بعد كل ذلك، إلى شهادة أخرى أصدق وأدق على حجم “التخابر” العراقي مع الأجنبي، القديم والجديد، ولا يجد أحدٌ من العراقيين في ذلك غضاضة؟

إن قصف مدينة حلبجة بالكيمياوي جريمة بشعة لا تغتفر ولا يمكن تبريرها بأي عذر وأي سبب. ولكن الوقائع والشهادات والتحقيقات الدولية المحايدة أثبتت أن أحد أهم أسباب تلك الجريمة كان قيام الحرس الثوري الإيراني والمسلحين الأكراد المجندين معه باحتلال المدينة، ولكن إيران وأحزابها العراقية، وجماعة مسعود وجلال، عملت بكل جهودها ونفوذها على إخفاء هذه الحقيقة، جاعلة من حلبجة قميص عثمان. ومؤخرا أعلنت الأمم المتحدة أن النظام السوري هو الذي استخدم الغاز الكيمياوي في شيخون. ولكن إيران وأحزابها الشيعية والكردية لم تقل عن شيخون ما قالته عن حلبجة.

وأخيرا، لو لم يكن محمد مرسي مصريا، وكان عراقيا، وعرضت تهمته بـ”التخابر” مع الأجنبي على مدحت المحمود لخرج براءة، بل لما جرُؤَ أحدٌ على اتهامه بشيء، ولأصبح رئيس جمهورية، أو رئيس وزراء، أو رئيس برلمان، أو رئيس أركان جيش، أو وزير داخلية، ولأكثر له الدعوة بطول العمر خطباءُ المرجعيات والحسينيات والجوامع، في النصف العربي من العراق، ولجَرَت له حفلاتُ تكريم كثيرة في السليمانية وأربيل.

كاتب عراقي

8