التجريب في السرد الأدبي العربي.. ضرورة ملحة لكن بحذر

أدباء عرب: التجريب ممارسة واعية لا خوف منها حين يمتلك السارد أدواته.
الثلاثاء 2022/02/01
التجريب وسيلة الكاتب للتفرد (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

يقترن التجريب في الكتابة بالمغامرة، ومن لا يغامر لا يمكنه أن يقدم الجديد في عوالم الأدب والفن والإبداع بصفة عامة، ويظل التجريب الرهان الأول لكل مبدع، لكن قليلون هم من ينجحون في تخطي عقباته ودواماته ومتاهاته، ليقدموا أعمالا لها بصمة خاصة. نسأل في هذا التحقيق عددا من الكاتبات والكتاب العرب حول ظاهرة التجريب في الكتابات السردية العربية المعاصرة.

مسقط – يرى العديد من الروائيين والمهتمين بالجانب السردي أن التجريب يشكل خاصية إبداعية مهمة ومشروعة من أجل البحث عما هو جديد في تشكيل وصناعة كل ما يتعلق بالخطاب والأدب السردي العربي، من خلال البحث بأكثر شمولية عن تراكيب وأدوات لغوية متقنة وتقنية سردية متفردة.

وفي ظل هذا الكم النوعي من الخطابات السردية تتابين الآراء وقد تظهر بصور نسبية غير مستقرة، إلا أن الأغلبية من الكتاب ترى أن يكون الخطاب السردي في وعيه التام، وأن يخرج بالكيفية المتقنة، بالإضافة إلى إيجاد المكانة الحداثية الخاصة به.

ثمة تساؤلات حول التجريب في النص السردي الأدبي، ونقول هل أصبح ضرورة في ظل ما يراه البعض بأنه تمكين للغة مغايرة تدخل على ذات النص أم مجرد إقحام لرؤى شكلية قد تكون ضرورية، وقد تضعف من قوة النص السردي؟

الأجناس الأدبية

تقول الكاتبة والأكاديمية العمانية عزيزة الطائي “بداية في شأن التجريب بالنص السردي، فقد عرفت الآداب العالمية تطورا كبيرا ملحوظا في أنواع السرد من: الحكاية، والقصة، والأقصوصة، والقصة القصيرة جدا، والرواية، وروايات السير الذاتية، والمتخيل الذاتي وغيرها، كما يرى فيليب لوجون في سلمه السردي، أو مثل ما ذكر جورج ماي في مقولة له: ما أراه رواية، قد تراه رواية سير ذاتية”.

وتضيف “هكذا تلتبس أمامنا الأنواع السردية؛ بل ويظهر لنا ما هو تمثيلي/ متخيل وما هو مرجعي/ ذاتي كالسيرة الذاتية، والمذكرات، واليوميات، والمقال الذاتي، وبورتريهات، وغيرها، ولا يزال الأدب يتطور ويتخذ مسارات، وتتفاعل أجناسه مع تطور الحياة ورؤيتها، ويذكر ميخائيل باختين عن الرواية أنها النوع الوحيد الذي في طور التكوين، والنوع الذي لم يكتمل بعد”.

وتشير الطائية إلى أن هذا يؤكد لنا أن الكاتب المبدع لم يعد معنيا بالنوع السردي بمقدار ما هو معني بالقضية التي يعالجها في قالب محكم الهيكل، وقوي البنية، ومكثف الصياغة؛ بل يحمل قضية دالة معنية بالالتفات والمعالجة، وتستحق النظر على الصعد المجتمعية والإنسانية والوجودية؛ فالجنس السردي بأنواعه له اجتراره من حيث الحضور والنموذج والخصوصية، ليسير بنا إلى آفاق أرحب تتعاطى مع واقع الحياة بكل ما تحمله من إشكالات وتناقضات وحيوات لخلخلة المشهد الحياتي المعيش، وإثراء المشهد الثقافي الحداثي بآليات كتابية، وتقانات معرفية بها من الغرائبية والدهشة واللعب الفنية التي تمنح أنواع السرد وقضاياه الرحيبة أفقا أرحب.

وتختتم الطائية حديثها بقولها “إذا سلمنا أن النص السردي قابل للتطور والانفتاح على نصوص أخرى متجانسة معه، يحق للكاتب النهل من معطيات ذلك كله، ليستمر رونق الأدب وتداعياته، وهو ما يؤكد عليه ميشال بوتور في الرواية أنها: تعبير عن مجتمع متغير، ولا تلبث بعدها أن تصبح تعبيرا عن مجتمع يعي أنه تغير”.

القاص والروائي العماني حمود سعود له رؤية خاصة به في شأن التجريب في الخطاب السردي وهنا يقول “عندما نريد أن نتحدث عن التجريب، علينا أولا أن نحدد ماذا نقصد بالتجريب، وعلى أي مستوى نريد أن نجرب في النص السردي، هل على مستوى الشكل أم المضمون، وقبل الحديث عن التجريب من الضروري جدا أن نستوعب ونفهم ونعي الأجناس الأدبية، وحدود كل جنس أدبي، ومدى إمكانية تداخل هذه الأجناس الأدبية مع بعضها”.

التجريب بات ضرورة ملحة في الآونة الأخيرة حيث تشابهت الكتب في كل شيء من أغلفتها وأسلوبها ولغتها

ويضيف “لأن هذه الملاحظة مهمة وضرورية في البدء عند الحديث عن التجريب، أحيانا يكتب البعض في جنس أدبي دون وعي أو إدراك، فمثلا عند ظهور جنس القصة القصيرة جدا (ق ق ج)، تهافت الكثير من الكتاب العرب في الكتابة في هذا الحقل السردي، دون وعي وفهم لمحددات وإمكانيات هذا الجنس الأدبي ومعرفة حدود الحكاية بداخله، لذا من الضروري الوعي بكل جنس أدبي، وخاصة في السرد، أما قضية التجريب، هل هي ضرورية أم لا، فهذا يعود للكاتب نفسه، كيف ينظر لتجربته وأسلوبه الكتابي، وهل يفكر بالمتلقي الذي يكتب له؟ ومقدرة هذا الكاتب على ممارسة التجريب في نصوصه”.

ويؤكد سعود في السياق ذاته “كل هذه الجوانب تجعل الإجابة على سؤال التجريب واضحة وسلسة، لذا سنجد اتجاهين في هذا الجانب، فهناك من يذهب بتجربته إلى دروب التجريب ودمج الأجناس الأدبية لإيجاد عوالم مختلفة ولصناعة دهشة مغايرة في نصوصه، وهناك من يلتزم بالجنس الأدبي الذي يكتب به ويرى صعوبة التجريب في السرد”.

ويرى أن “التجريب يحدث في متن النصوص، ويصعب التجريب في الشكل الأدبي الذي يلتزم بقواعد معينة، وفي رأيي الشخصي أرى أنه لا خوف من التجريب، حين يمتلك السارد أدواته، ونظرته إلى الكتابة وموضوع النص، ربما ينجح أو يفشل، لا يهم ذلك، ما دامت الكتابة هي محاولات دائما، ربما ينجح في النصوص القادمة”.

ويختتم قوله “لا يمكنك أن تلزم كاتبا بالطريقة التي يكتب بها، بل الكاتب وحده من يبحث عن أسلوبه ويطوره، ويراجع كل تجربة تخرج للقراء، وبكل تأكيد هذه مهمة النقاد في تشريح وقراءة التجارب”.

نتيجة وضرورة

الكاتب يتطور بالمغامرة
الكاتب يتطور بالمغامرة

أما الكاتبة والروائية السعودية سارة مطر فتقول إن “التجريب جزء من الإبداع في الرواية، وحينما تضرب أصابعك العشرة مفاتيح الحاسب الآلي، وتبدأ في البحث عن مفهوم التجريب، ستجد في مقدمة ‘غوغل‘ اختصارا لهذا المفهوم في الأدب، حيث يشير إلى أنه نتيجة وضرورة، ليس في الأدب وحده وإنما في الفن أيضا، ولا نكون أسرى لكلمة ‘تجريب‘ أو معنى التجريب، فكل ما هو قائم ومستمر في الحياة يقوم على التجربة أو التجريب؛ ذلك أن الكتابة الأدبية وسواها من أنواع الكتابة تمثل في قرارة وجودها ومبررها هذا التحول أو هذا التجريب”.

وما إذا التجريب أصبح ضرورة في النص السردي؟ توضح مطر “يمكنني أن أقول إن لا شيء في أدب الرواية أو الفنون بشتى أشكالها، ما هو حتمي في اختيار الدخول إلى منطقة التجريب أو الابتعاد عنها، وأعني بذلك أنك لا يمكن أن تربط قوة النص الأدبي لاختيارك أن تكتب في منطقة التجريب أو المفهوم الابستمولوجي، علما أن التجريب مرتبط تاريخيا بتحولات البنية المعرفية، إلى جانب الجمالية في سياق نسق الثقافة الغربية ومركزيتها بخطاب الحداثة، وما يحمله هذا الخطاب كما ذكر من حمولات تاريخية وفلسفية وحضارية”.

وتبيّن “في الرواية العربية الحديثة دخل إليها التجريب بشكل متأخر، والسؤال هل أضاف إلى شكل الرواية ونقلها إلى موقع مختلف؟” وتجيب “بالنسبة إلي يمكنه أن يفعل ذلك، ولكن واقعيا فإن ما حدث هو استغلال التجريب في مخاض صعب إلى حد ما، محاولا الخوض في تجربة الشكل السردي الجديد للرواية، ومن خلال الرصد للمشهد الثقافي الغربي، فيجب أن نتذكر أن التجريب لديه ارتباط بخطاب الحداثة التنويري ودعوته إلى تعدد المعارف، وهذا ما جعل الرواية الغربية تحتفل بركيزتها في الدخول إلى فن التجريب الواعي والتفكير بأعلى سلطة من الحرية، علما أن الرواية لدى الغرب تتضامن بالتشابه مع شكل الرواية العربية مع اختلاف الولادة. لذا، في النهاية، فكرة استحضار التجريب هي جزء من الإبداع”.

مغامرة غير مضمونة

التجريب بات ضرورة ملحة

في هذا السياق تتحدث الكاتبة والروائية شريفة التوبية عن التجريب في النص السردي الأدبي، وتشير إلى أن الأدب أو النصوص السردية مرت بمراحل كثيرة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، فالأدب الحديث هو نتاج لتلك المراحل، وفي كل مرحلة تكون هناك مقاومة ورفض واستهجان من قبل النقاد والمتلقين.

وتضيف “هنا أستطيع القول إن الأدب يسبق النقد في تطوره؛ فالناقد يطالب الكاتب بأن يظل داخل تلك الأطر المرسومة والقواعد المحددة للنص الأدبي، وإذا تجاوزها فإن ما يقدمه الكاتب لا يعترف به الناقد كعمل أدبي مستوفي الشروط، وهنا تأتي الإشكالية؛ فالأدب بروحه المتجددة يحتاج من الكاتب إلى بعض من الجرأة والمغامرة، الكتابة لحظة تحليق وكسر للقيود وانعتاق من كل شيء إلا تلك اللحظة التي يعيشها بكل ما أوتي من إبداع وجنون، ومع ذلك لا يمكن أن تأتي هذه المغامرة بشكل عشوائي وغير مدروس”.

وتؤكد “التجريب عملية ضرورية للكاتب، وإن لم يفعل ذلك فما هو إلا نسخة مكررة من غيره، لذا لا أجد أن هناك ما يمنع تجربة لغة جديدة وأسلوب مختلف مغاير للمألوف، فما الذي يمنع أن آتي بما لم يأت به من سبقني، وما الذي يمنع أن أكون أنا حين أكتب وليس غيري، ما الذي يمنع أن أبتكر شيئا جديدا بمذاق ونكهة مختلفة، ربما يأتي أفضل مما سبق”.

وتضيف “لو تحدثنا عن الرواية على وجه الخصوص، سنجد أنها تعد فنا أدبيا حديثا، فقد أتت من تلك الحكايات الطويلة التي كانت تحكى قديما، لكنها لم تظهر في وصفها وتصنيفها كرواية، فحتى حكايات ‘ألف ليلة وليلة‘ لم يطلق عليها رواية، بل كتاب ‘ألف ليلة وليلة‘، ورغم أن العالم العربي مليء بالحكايات والقصص، إلا أن العرب كانوا شعراء ويتباهون بنظم القصائد ويفتخرون بشعرائهم، وإن حكوا حكايات الحروب والبطولات لكن ذلك لا يتعدى في كونه قصصا وقصائد، وقد عرفنا تلك الحكايات من القصائد المنظومة، وحدث أن القصيدة خضعت للتجريب وظهرت القصيدة النثرية التي لا يعترف بها البعض حتى الآن ولا يعدها شعرا رغم انتشارها، لكنها فرضت حضورها كفن شعري سائد في الساحة الشعرية والأدبية”.

وتضيف التوبية “الرواية اليوم هي المتصدرة للمشهد الأدبي في العالم أجمع، حتى وصل الأمر بالبعض أنه لا يعد الكاتب أديبا إذا لم يكتب رواية، ومع انتشار الرواية ورواج سوقها، أجد أنه أصبح لا بد من ابتكار أساليب جديدة للخروج بهذا الفن من القوالب المتعارف عليها، والكاتب الحقيقي يوجد عوالمه ولغته وأسلوبه، وقد نحتاج إلى أساس نبني عليه أركان الرواية من شخصيات وزمن ومكان وحبكة وإلخ، ولكن بعد ذلك للكاتب الحق أن يمارس كل مهاراته وخبراته ليأتي بجديد”.

الكاتب المبدع لم يعد معنيا بالنوع السردي بمقدار ما هو معني بالقضية التي يعالجها في قالب محكم الهيكل

وتشدد الكاتبة “نريد شيئا مختلفا ولكنه معقول ومقبول دون إسفاف ودون إجهاض للبنية الأساسية للعمل أو النص السردي، وفي الآونة الأخيرة تشابهت الكتب في كل شيء، بدءا من أغلفتها وحتى أسلوبها ولغتها، وبالنسبة إلي لا أرضى أن أكون نسخة مكررة من غيري، وأريد أن أكون أنا في ما أكتب، وتجربتي الخاصة في الكتابة، فلا يمكن أن أظل ككاتب محصورا ومقيدا من قبل الناقد أو الناشر، وهذا القيد وتلك الشروط لن تجعل مني مبدعا”.

وتختتم التوبية حديثها “قد يكون التجريب مغامرة غير محسوبة وغير مضمونة، ويرفض عملا أدبيا اجتهدت فيه، واعتقدت أنك أبدعت في كتابته، لمجرد أنه لا يستوفي شروط النقد أو اشتراطات الناشر، ولكن عليك أن تغامر وأن تجرب أساليب جديدة، فقد تكون تجربتك الكتابية مدرسة جديدة، لم لا؟ وأنا على ثقة أن العمل الجيد أو النص الجيد يفرض نفسه، والرهان على وعي القارئ وقدرة الكاتب على التميز والإبداع”.

أما الكاتب العراقي محمود السامرائي فشير في هذا السياق إلى أن “التجريب السردي، الذي أعتبره غواية كل كاتب ومناه، شكل منعطفا مهمّا في مسيرة الرواية العالمية بشكل عام، قبل أن تنتقل إلى العربية وتحدث تغييرات وانعطافات لافتة في مسيرة الرواية العربية، التي لم تأت لتفكيك الكلاسيكية وردمها والبناء على أسس جديدة؛ بل بناء ومضي لتلك المسيرة”.

ويضيف “ظهرت بوادر في كتابة جديدة للرواية وذلك في منتصف القرن الماضي، محاولين التغيير والمضي بخطوات واثقة على أيدي طائفة من الكتاب وخاصة مارسيل بروست الذي مثل نقطة تحول في الرواية، كذلك جيمس جويس وآلان روب ونتالي ساروت وكلود سيمون وميشال بوتور، فمثل هؤلاء نقطة افتراق بين الرواية الجديدة والرواية التقليدية، وعليه فإن التجريب نشط وفاعل على مستوى السرد ويمكن أن يطال كل جوانبها ويعبث بها بدءا من التقنيات السردية وصولا إلى الموضوع واللغة والأسلوب، وليستقر التجريب بوصفه مفهوما على أنه الانحراف والخروج والتجدد والتفرد”.

ويتابع “لقد وصل إلى الأدب العربي، محدثا تغييرا وتحولا كبيرا في مسيرة السرد العربي، والمتتبع للمسيرة الروائية العربية لا يغفل الانفتاح التجريبي الكبير في الأساليب والأشكال وطرق التلاعب الروائي وتعدد الخطابات والحوارات والانتهاكات والتفكيك الطاغي المدمر واختلاف الأجناس، فتنصهر التجربة بالإبداع، كل هذا يضمن التفرد والاختلاف”.

ويؤكد السامرائي قوله “أنا ككاتب للرواية أسعى دوما لقراءة الأعمال الجديدة التي تحمل مضامين تجريبية، وفي رأيي أن التجريب ليس وليد عشوائية أو انطباعية أو رغبة، بل هو نتيجة عملية طويلة في التأمل ودراسة الأعمال الإبداعية، وتأسيسا على ذلك: فإن التجريب ممارسة واعية ورؤية ثقافية ونقدية محسوبة تنهل من ثقافة الأمة، ويمكن القول إن التجريب الانحراف والخروج والتجدد والتفرد على ألا يكون التجريب إقحاما لما ينسف ما سبقه من أساليب ولغة، محاولا إدخال ما لا يقنع، وأذكر أنني أقرأ دائما ما أظنه تجريبا، مثل الروايات التي تفوز في البوكر، والتي تأتي عن اختيار لنقاد أذكياء يهتمون بالتجريب والجديد في الرواية على حساب الحكاية وما تعلمناه من تقاليد وقوالب فنية كلاسيكية”.

14