التجارب المدرسية السلبية تتسبب في جراح نفسية تؤثر على الحياة المهنية

يربط علماء النفس بين التجارب القاسية التي عاشها الفرد في المدرسة وبين تأثيرها عليه في حياته المهنية، ويشيرون إلى أنه كلما كانت هذه التجارب سيئة ازداد لديه القلق من التحدث أمام الجمهور أو الخوف من اعتلاء منصة أو الشعور بالنقص. ويؤكد الخبراء أنه بإمكان الفرد أن يحسّن حياته من خلال الاعتراف بـصدمة المدرسة والتخلص منها نهائيا.
برلين – يقرّ خبراء علم النفس بأن هناك بعض الأشخاص الذين تستمر معهم، دون قصد، الجراح النفسية الناتجة عن تجارب معينة مروا بها خلال فترة الدراسة، حتى تصل معهم إلى مرحلة البلوغ.
ويتساءلون: ما الذي يتبادر إلى ذهن الشخص عندما تعود به الذكريات إلى أيام دراسته؟ هل يتذكر أنه كان يحصل على درجات جيدة وكان المعلمون متفهمين له؟ أم يتذكر مواقف محرجة وسماعه تعليقات مؤلمة؟ وهل كان يظل وحيدا أثناء فترات الراحة في ملعب المدرسة؟
تقول ميرا مولينوف، وهي أخصائية في علم النفس الاجتماعي ومقيمة في ألمانيا، “لقد مر الكثير منا بتجارب من هذا النوع”. وتستهدف مولينوف في كتابها الذي يحمل اسم “ضع ظلال أيام الدراسة وراء ظهرك”، إظهار كيفية قيام المرء بتحسين حياته من خلال الاعتراف بـ”صدمة المدرسة” والتخلص منها في النهاية.
وتشير مولينوف إلى أنه “من الممكن أن تكون (تلك الجراح) سببا لوجود حواجز أو مشاكل نفسية، مثل الخوف من اعتلاء أي منصة أو القلق من التحدث أمام الجمهور أو الشعور بالنقص”.
من الممكن أن تتسبب التجارب المدرسية السلبية في ظهور مشاكل نفسية، مثل الخوف من اعتلاء أي منصة
وفي بعض الأحيان يكون المرور بواقعة واحدة فقط كاف تماما لحدوث ذلك؛ على سبيل المثال عندما يطلب المدرس من طالب التقدم إلى السبورة ويتم تكليفه بشيء ما ولا يستطيع أن يجيب، قد يثير ذلك ضحك زملائه في الفصل.
وتقول مولينوف “مثل هذا الموقف يتم شحنه بمشاعر سلبية مكثفة ويتم تخزينها في الذاكرة”.
والأمر الجيد هو أن هناك فرصة للتغلب على ذلك، حيث تقول مولينوف إن “الخطوة الأولى هي تدبر الأمر”، بمعنى التوقف عن التفكير في ما يمكن أن يكون مصدر المشاكل الحالية.
ومن بين النصائح التي قدمتها في كتابها التحدّث مع الآخرين عما مر به المرء من تجارب، وتجنب الأشخاص السيئين والأماكن غير المفيدة، وتطوير روتين وطقوس يوفران القوة والدعم. كما أنه من المهم أيضا أن يعرف المرء حدوده وأن يقبل المساعدة.
إلا أن مشاعر العجز أو الإحراج أو القلق ليست المخلفات المزعجة الوحيدة من أيام الدراسة التي ربما مازالت تثقل كاهل الشخص المعني حتى الآن.
وتشير المستشارة وعالمة النفس المهني راجنهيلد شتروس إلى أن “هناك تقييمات سلبية توجه طريقة تفكيرنا وسلوكنا”، مضيفة أن هناك أيضا مواهب واهتمامات أثناء فترة الطفولة تم نسيانها، مثل المهارات الاجتماعية القوية أو العفوية.
وتقول “إذا تعلمت في المدرسة أن هناك دائمًا كلمة ‘صحيح’ وأخرى ‘غير صحيح’ وكان يتم توبيخك كلما أعطيت إجابة مغايرة لتوقعات المدرس، فإنك سوف تتوقف تلقائيا عن التعبير عما يجول في خاطرك بحرية”.
وقد يكون هذا هو سبب افتقار المرء في مرحلة البلوغ إلى الشجاعة اللازمة لاقتراح أفكار أثناء جلسات العصف الذهني في العمل، أو أخذ زمام المبادرة أو التعبير عن الرأي بثقة.
كما يمكن للأحكام المسبقة والصفات الشخصية المميزة أن تشكّل الصورة الذاتية للمرء وتؤثّر على تطوره الإضافي. ومن المتوقع بشكل طبيعي أن يصير الشخص الذي كان “جيدا دائما في الرياضيات” مهندسا، وأن يصير “ابن الطبيب” طبيبا بصورة طبيعية.
وإذا لم يقم المرء بفحص هذه الصفات بشكل نقدي، فإنه قد يضع قيودا لنفسه من خلال التصرف كما هو متوقع منه، “بدلا من السير وراء أحلامه وتحقيق الخطط التي لديه القدرة على تحقيقها”.
وتحاول شتروس، في جلسات الاستشارة الخاصة بها، إنقاذ الموارد المنسية الموجودة لدى زبائنها وتحفيزهم على تذكر نقاط القوة والإمكانات السابقة لديهم. ومن المهم أن يفهموا أن الصعوبات السائدة لا يجب أن تكون دائمة.
وتقول شتروس “يجب على المرء أن يدرك أنه يمكنه الآن أن يجرّب أنماطا جديدة من السلوك لأنه صار كبيرا”.
وتنصح بأن يوجه المرء انتباهه إلى الوقائع المدرسية الإيجابية، موضحة أن “كل شخص كان له مدرس عندما كان طالبا رأى شيئا جيدا فيه، مدرس كان يتم التطلع إليه لأنه اعترف بإمكانيات الطالب وشخصيته ودعمه وكان يقوم بتشجيعه”.
ومن المريح أن يدرك المرء أن التجارب المدرسية السلبية ليست هي وحدها التي يمكن أن تشكل حياتنا العملية اللاحقة.
كما أن المؤهلات الأكاديمية ليست دائما أفضل مؤشر على دخول الحياة المهنية بنجاح، أو سببا لتحقيق السعادة في المستقبل؛ ففي العديد من المناسبات كان الأشخاص الأوفر حظا في الدراسة يعثرون على وظائف برواتب متدنية، أو اضطروا في وقت ما إلى أن يكونوا عاطلين عن العمل.
ويوضح الصحافي جون هالتيوانغر في مقالته “لماذا يعد الفاشلون في المدرسة أكثر الشخصيات نجاحا في المستقبل؟”، أن الطلاب الحاصلين على درجات متوسطة بلغوا اليوم مستويات عالية من الثراء والشهرة.
النجاح في المدرسة يرتبط بخصائص الجهاز النفسي لكل تلميذ، فالتلميذ الذي يستطيع الانصياع للصراعات العلائقية والداخلية ينجح حتما في المدرسة
وبالتالي يبدو أن النجاح لا يتحقق فقط عبر التفوق الدراسي، بل على العكس من ذلك، يمكن للطلاب أصحاب الدرجات المتوسطة امتلاك سلسلة من المهارات والقدرات المفيدة جدا، وقد يكونون أكثر إبداعا وابتكارا.
وقال الكاتب برتراند ريغادير في تقرير نشرته مجلة “بسيكولوجيا إي مينتي” الإسبانية إن مقال هالتيوانغر أثار جدلا لأنه بيّن أن “الطلاب الذين حصلوا على مؤهلات أكاديمية عالية ليسوا بالضرورة الأكثر ذكاء”.
ووفقا لريغادير فإن “الطلاب أصحاب الدرجات المتوسطة، وأولئك الذين يحصلون على درجات مقبولة إجمالا، أو درجات منخفضة بعض الشيء، يميلون إلى أن يكونوا أكثر نجاحا في حياتهم المهنية والشخصية مقارنة بالطلبة المتفوقين”.
ويرتبط النجاح في المدرسة بخصائص الجهاز النفسي لكل تلميذ، فالتلميذ الذي يستطيع الانصياع للصراعات العلائقية والداخلية ينجح حتما في المدرسة وإذا لم يستطع ذلك فإنه يخفق ويتأخر عن زملائه وأقرانه، بل قد يجد نفسه خارج المنظومة التعليمية.
ويختلف إقبال الناس على الدراسة من شخص إلى آخر، ويعتمد نجاح الفرد على عوامل مختلفة، كالذكاء والوضع الاجتماعي والاقتصادي والعوامل الخارجية التي لا تخضع للسيطرة.
ويعتقد اختصاصي التربية الدكتور جمال الدقم أن الفشل المدرسي لا يعتمد على الطالب فقط في صورته الأساسية، مشركا المؤسسة التعليمية والأسرة والتحفيز والمعلم في تحمّل المسؤولية الكاملة.
كما يرى الدقم أن الخوف من الفشل من أهم المشكلات النفسية التي تعيق الإنسان عن تطوير نفسه والإقدام على ما ينفعه.
ويعزو ذلك إلى الأفكار “التي تخطر على بال الإنسان؛ فعندما يريد القيام بعمل ما يكون الخوف من الفشل حاضرا”.
ويشير الدقم إلى أن معرفة الشخص لمدى قدرته على ما يستطيع تحقيقه تحفزه على الانطلاق من جديد، ومن يفقد الطموح ليس بالضرورة أن يكون فاقدا للطاقات والمؤهلات.
ويحذر اختصاصي التربية من تنامي الشعور الداخلي بالخوف من الفشل، مبينا أن استهلاك الوقت في تحقيق هدف ما يصعّب الوصول بعد أن تحول العقبات والمشاكل بينه وبين تحقيقه.
ويبين الدقم أن مفهوم الفشل الدراسي لا ينفصل عن مقابله “النجاح الدراسي”؛ ذلك أن انعدام الأسباب التي تؤدي إلى النجاح الدراسي تفرض الفشل الدراسي كنتيجة سلبية غيرت خارطة استهلاك هذا المفهوم داخل الأوساط التربوية، مؤكدا أن الفشل الدراسي ليس سوى نتيجة للقاعدة التي نعطيها له.
ويكمن الخوف من الفشل، بحسب الدقم، في الحاجز الذي يحول بين الإنسان وبين تفجير طاقاته وبالتالي بينه وبين الوصول إلى أهدافه وطموحاته وأمانيه.
ويلفت إلى أن ذلك يؤدي إلى الاكتئاب والانسحاب والتقوقع على الذات، معتبرا أن الامتحانات الدراسية أكبر دليل على ذلك.
ويشير إلى أن أسباب الخوف من الامتحان متعددة، ومن بينها الخوف من الفشل والرسوب والخوف من ردود فعل الأهل وضعف الثقة في النفس والرغبة في التفوق على الآخرين. ويضيف إلى ذلك أنظمة الامتحانات السائدة والمعوقات الصحية والأساليب الدراسية الخاطئة.