البيروقراطية الرقمية في تونس

الحداثة عقلية والتزام حقيقي بضرورة التواصل مع المواطن وليس مجرد برمجيات واتصالات إلكترونية.
الأحد 2022/11/27
أسابيع طويلة من العناء رغم الرقمنة

كان الالتحاق بالثورة الرقمية من أبرز المحاور التي انكبت عليها قمة الدول الفرنكفونية التي التأمت مؤخرا في جزيرة جربة التونسية وذلك لسبب أساسي هو تخلف المحتويات باللغة الفرنسية أمام طغيان اللغة الإنجليزية على شبكة الإنترنت.

حين يتحدث التونسيون عن الرقمنة، فأيّ هدف ينشدون؟

قد يتهيأ للمرء أن الهدف هو تحديث الإدارة والإسراع بإدخال الإصلاحات الاقتصادية التي تفاوضت عليها مع صندوق النقد الدولي.

أمام التأخر المسجل في هذا الإطار في الإدارات الحكومية سيكون ذلك تحديا صعبا. ليس لقلة الكفاءات في سائر مجالات التكنولوجيا والإعلامية فهذه تزخر بها البلاد وهي تتمتع بصيت عالمي واسع.

المشكل، وقد يكون التحدي الأصعب، هو عدم وجود إرادة للتخلي عن التقاليد البيروقراطية التي درجت عليها الإدارات العمومية في تونس، إلى حد أنها أضحت تتخيل على ما يبدو أن أركان الدولة قد تنهار لو هي أزالت البعض من إجراءاتها وتراتيبها المليئة بالتعقيدات والتناقضات.

تستطيع اليوم في تونس أن تغرق السوق بالبضائع التركية أو الصينية التي تنافس المنتوجات التونسية وتفاقم عجز الميزان التجاري وتستنزف رصيد البنك المركزي من العملة الصعبة. ولكنك لا تستطيع، إن كنت رجل أعمال أو صحافيا أو أيّ شخص آخر، أن تشتري جهاز هاتف نقال أثناء سفرك إلى الخارج وتعود به إلى تونس دون أن تكتشف معنى البيروقراطية الرقمية والمثال الحي عنها المتمثل في هيئة “سجّلني”.

المشكل، وقد يكون التحدي الأصعب، هو عدم وجود إرادة للتخلي عن التقاليد البيروقراطية التي درجت عليها الإدارات العمومية في تونس

يفرض عليك القانون إن أردت استعمال أيّ هاتف نقال تقتنيه في الخارج بعد دخولك التراب التونسي أن تفوز أولا بالمصادقة عليه من قبل هيئة حكومية للاتصالات أطلقت عليها كنية “سجّلني”.

بإمكان هذه الهيئة أن ترفض التصديق على استيرادك لجهاز الهاتف ومنعك من تشغيله بحرية. قد يأتي المنع حتى لو كان الهاتف الوحيد الذي تستورده وتظن أنك استوفيت كل الشروط المطلوبة. وهي شروط لا يساورك أبدا اعتقاد أنها موجودة أصلا.

يكفي الهيئة فقط أن ترسل لك سطرا يتيما بالبريد الإلكتروني تعرب لك فيه عن “أسفها” لقرارها رفض تسجيل هاتفك. يعني ذلك أن الهيئة سوف تمنعك بفضل ما لديها من إمكانات تكنولوجية وصلاحيات رسمية من استخدام هاتفك النقال مع شريحة اتصالات تونسية.

ليست الهيئة مجبرة على تبرير قرارها أو تفسيره. لا توضّح أين المشكل الذي قد يكون ناتجا عن رقم خطأ أدرجته في طلب التسجيل. طلب مليء بالأرقام، ومنها رقم جواز السفر وتاريخ دخولك الأخير للبلاد إضافة إلى الإحداثيات والمواصفات الفنية المتعلقة بالهاتف المستورد.

طبقا للإرشادات على موقع الهيئة على الإنترنت، بإمكانك أن تتوجه إلى مطار تونس قرطاج الدولي من أجل تقديم اعتراضك مرفوقا بحزمة من وثائق الإثبات التي تظهر أنك اشتريت الهاتف بطريق مشروعة ولست مهرب هواتف نقالة.

تستطيع الاعتراض على قرار المنع طبقا للإجراءات والتراتيب الجاري بها العمل مثلما يقولون.

تقف في طابور المنتظرين أمام إدارة “سجّلني” بالمطار ثم تبتسم بكياسة للموظف الجالس في مكتب الهيئة. تعرف أن الموظف المسكين لا ذنب له عندما تملأ الاستمارة وتقدم مزيدا من المعطيات أملا في أن تقنع الإدارة الحكومية الكريمة بأن تسمح لك مشكورة باستعمال هاتفك النقال.

تسلّم الملف وليس هناك ما يضمن حصولك على مجرد إجابة من الهيئة على طلبك ولو بعد أسابيع من تقديم طلب الاعتراض.

يقول لك المسؤولون في مكتب الهيئة إن أنت اتصلت بهم مرة ثانية إنهم مشغولون بمعالجة أعداد كبيرة من طلبات الاعتراض سبقتك، مما يوحي بأن التظلمات هي القاعدة والموافقات هي الاستثناء.

حين لا يصلك جواب تقرر مراسلة الهيئة بالبريد الإلكتروني. ويشجعك على ذلك التزام الهيئة على موقعها الإلكتروني بالرد على طلبك بعد ثلاثة أيام فقط من تلقيها الطلب. ومجددا تقدم حزمة الإثباتات. هذه المرة في شكل مرفقات إلكترونية.

ولكن الهيئة مشغولة جدا، ولا ترى نفسها معنية بالرد أو بتأكيد مجرد توصلها بالطلب.

في الأثناء تجد الهيئة الوقت الكافي كي تقطع عنك أيّ إمكانية لاستعمال هاتفك الجديد. ومن قال إن الكفاءة التكنولوجية للإدارات الحكومية غير عالية؟

تضطر لاستعمال هاتف آخر. وتعود بعد شهر تقريبا لمكتب “سجّلني” في المطار وتأخذ مكانك مجددا في الطابور.

مواطنون تونسيون وزوّار أجانب من مختلف بلدان العالم تعطلت مصالحهم فجاؤوا يتظلمون. البعض منهم من الشباب التونسي الذي عيل صبره وزادت إشكاليات “سجّلني” من إصراره على الهجرة إلى الخارج حالما تسنح الفرصة.

بإمكانك أن تتوجه إلى مطار قرطاج من أجل تقديم اعتراضك مرفوقا بحزمة من وثائق الإثبات
بإمكانك أن تتوجه إلى مطار قرطاج من أجل تقديم اعتراضك مرفوقا بحزمة من وثائق الإثبات

تملأ استمارة جديدة وتدفع هذه المرة إتاوة للدولة وتحصل في نهاية المطاف على شهادة في مطابقة هاتفك للمواصفات.

بعد أسابيع طويلة من العناء تستطيع استعمال هاتفك. تستطيع الاحتفال بإطلاق سراح هاتفك وتبرئة ذمّتك بعد أن جعلتك التراتيب الإدارية محل شبهة بالتهريب أو السرقة. هاتفك ليس هاتفك إن لم تشهد “سجّلني” بأنه كذلك.

إجراءات تسجيل الهاتف النقال لدى مصالح الدولة مثال على الأعباء التي تضعها الإدارات الحكومية على عاتق المواطن المسكين وعلى عاتقها هي ذاتها دون موجب ودون فائدة حقيقية بالمقارنة بالعراقيل التي تضعها أمام المواطن أو المستثمر أو السائح الأجنبي.

يبقي هذا الترخيص الإجباري أيّ شخص مهما كانت جنسيته عالقا لأسابيع في حلقة مفرغة، فقط لأنه اقترف خطأ اقتناء هاتف نقال من الخارج بهدف استعماله في تونس.

البيروقراطية لا تخضع لمنطق غير قدسية النص القانوني أو الترتيبي. لا يفهم أحد كيف تخشى الدولة على اقتصاد البلاد من توريد المواطن لجهاز هاتف نقال وحيد من قبل أيّ شخص لاستعماله الفردي وبصفة قانونية.

للسلطات الحق في مقاومة التهريب والاستعمالات الإجرامية للهواتف النقالة. ولكن من المفروض أن تقوم بذلك دون أن تقحم المواطن أو الزائر في معركة ليست بالضرورة معركته وهو المشغول بقضاء شؤونه وليس له ترف الاصطفاف في الطوابير وملء الاستمارات.

البيروقراطية في تونس تنّين ضخم لم يستخلص مروّضوه العبرة من دروس الحاضر والماضي.

أصبح التنّين يتقن استعمال التكنولوجيات الحديثة، ليس لتيسير المعاملات بل لتعقيدها.

ينسج التنّين شبكة عنكبوتية من القوانين غير الضرورية يعلق فيها الموظفون في الإدارات الحكومية قبل غيرهم. وتخلق الإدارة الحكومية بنصوصها مستنقعا قانونيا لا هي ولا المواطنون العاديون قادرون على التخلص منه.

أصبح التنّين اليوم إلكترونيا، ولكنه مازال متشبثا بالتراتيب والإجراءات التي لا طائل من ورائها. مازال يضطرك رغم ما يبشر به من تسهيلات إلى إعداد حزم من الملفات الورقية لإنقاذ المسار الإلكتروني الذي لم يتم إعداده ليكون “صديقا” للمواطن.

تتباهى الإدارات الحكومية بأنه بإمكانك اليوم استخراج شهادة ميلادك على الإنترنت، ولكنها تكبلك بالإجراءات التي تمنعك من استعمال الهاتف النقال الذي يربطك بالناس وبالإنترنت.

اليوم تعدنا الإدارة الحكومية بأنها سوف تضع على ذمتنا إمضاءات إلكترونية تريحنا من عناء الحصول على الإمضاء “المطابق للأصل” مرورا بمكاتب المجالس البلدية وطوابيرها.

تعدنا “بهوية رقمية” سوف تشهد بأننا حقا من نزعم ونستطيع بفضلها قضاء حوائجنا بلا طوابير.

وبعد أن يتم الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة على هذا الإنجاز التاريخي سوف يكون بإمكان المواطن استعمال هاتفه النقال لاستخراج الوثائق التي يحتاجها، إلا بالطبع إذا منعته هيئة “سجّلني” من استخدام شريحة الهاتف التونسية.

تستطيع اليوم في تونس أن تغرق السوق بالبضائع التركية أو الصينية التي تنافس المنتوجات التونسية ولكنك لا تستطيع إن كنت رجل أعمال أو صحافيا أو أيّ شخص آخر أن تشتري جهاز هاتف نقال أثناء سفرك إلى الخارج

لا تنتبه الإدارات الحكومية إلى تناقض طلباتها وإجحافها في حق المواطن المغلوب على أمره. هي التي لا تعترف بإمضائك على أيّ وثيقة إن لم “يعرّف” به أحد المجالس البلدية. و”التعريف بالإمضاء” يعني أن يشهد موظف بالبلدية على أن إمضاءك صحيح وحقيقي. كما لا يمكنك استعمال أيّ نسخة من وثيقة ما إن لم تشهد البلدية أنها “مطابقة للأصل” وتضع خاتمها السحري عليها. لا أدري لماذا تذكّرني إجبارية المرور بالبلديات بقصيدة يبرم التونسي “المجلس البلدي” وهو القائل: “أمشي وأكتمُ أنفاسي مخافة أنْ/ يعدّهـا عاملٌ للمجلسِ البلـدي”.

إجراءات التصديق تتطلب طبعا خروجك من الشغل واصطفافك في طابور لساعات. إجراءات تجعلك تتساءل إن كان وقتك يساوي شيئا بالنسبة إلى إدارات حكومية مازالت تتصرف وكأنها المساند الرسمي للطوابير؟

الحل ليس في “رقمنة” البيروقراطية وإنما في تحديث الإدارات الحكومية. الحل في مراجعة المفاهيم التي تتأسس عليها الرقمنة.

يستوجب ذلك قبل كل شيء التخلص من عقدة مازالت بعد العشرات من السنين من الاستقلال تكبل هذه الإدارات وتجعلها تتوجس من المواطن وتتعامل معه وكأنه شخص مستراب في أمره. تراه الإدارة مجرما متخفيا وتتصرف معه بكل أنواع الحيطة والحذر. فتسن ترسانة ضخمة من القوانين لها بداية وليست لها نهاية.

في الأثناء يبقى المواطن يحلم بأن يرى الإدارات الحكومية حليفته في إنجاز مشاريعه وقضاء شؤونه، وليس خصما يحجب عنه الثقة إلى حين إشعار آخر.

الحداثة عقلية والتزام حقيقي بضرورة التواصل مع المواطن، وليس مجرد برمجيات واتصالات إلكترونية.

زمن أبجديات التواصل أن يخاطب موقع إنترنت مثل موقع “سجّلني” المواطنين بلغتهم الوطنية وليس فقط بالفرنسية والإنجليزية إلا إذا كان الهدف من ذلك إقناع المشاركين في القمة الفرنكفونية بأن اللغة العربية أيضا في تراجع على الإنترنت وليس فقط الفرنسية.

6