"البوم".. ملحمة درامية خليجية ترصد عالم البحر والصراع مع الإنجليز

جاء مسلسل "البوم" الذي عرض خلال شهر رمضان الماضي ولا يزال يعرض في قنوات عربية، ليكون سبقا دراميا، حيث يسلط الضوء على تاريخ الصراع الإماراتي مع المحتل الإنجليزي، وهو موضوع تجاهلته الدراما الخليجية طوال سنوات، ونجح في إضاءة جوانب كثيرة غائبة عن عالم البحار وتاريخ المنطقة.
سامر سالم أحمد
لقد شكلت الدراما العربية حضورا متواضعا في ما يتعلق بتناولها عالم البحار، ولم نقف في السابق أمام عمل يعالج هذا الجانب بجدية، فمعظم الأعمال التي ارتبطت بالبحر لم تكن ذات ارتباط مباشر يتجاوز الحدود البرية التي عرفتها الدراما العربية، كل ما نعرفه هو الشاطئ الذي ترسو عليه بعض القوارب أو ما يسمى بالفلوكة، لا نشهد سفنا تخوض غمار البحر ترصد لنا ما يلقاه البحارة من هول البحار، أو ما يتعرضون له من صراع تنافسي مع القوى الأجنبية أو التطرق إلى عمليات القرصنة البحرية.
إنه إذا حضور شكلي يقتصر على اللون الأزرق وبعض السفن والأشرعة والأسماك في الغالب. والحقيقة أن الكاميرا العربية أدارت ظهرها لهذا الجانب المهم واكتفت بلقطات خجولة للبحر. ولو قمنا بإحصاء مجمل الأعمال العربية التي عالجت الحروب والصراعات البحرية في أعمال مستقلة لما تجاوزت عدد أصابع راحة اليد، ومن أول هذه الأعمال وأقدمها مسلسل "حرب السنوات الأربع" التي وقعت خلال الفترة بين 1801 و1805.
تم بث المسلسل سنة 1980 والذي يعد أول تجربة للإنتاج التلفزيوني السوري في القطاع الخاص، مجسدا الحرب التي قامت بين حاكم طرابلس (ليبيا) يوسف باشا القره مللي، وأخيه أحمد باشا القرة مللي، وحرب طرابلس التي استمرت أربع سنوات، حيث بيّن العمل مطامع الحكومة الأميركية في ليبيا، وكذلك محاولة الولايات المتحدة احتلال الشواطئ الليبية بأكبر
أسطول بحري في ذلك الوقت وبوجود أكبر سفينة بحرية "فيلادلفيا" ذات الأربع والأربعين مدفعا ويبين المسلسل طريقة أسر السفينة وطاقمها من قبل الريس مراد آغا دون إراقة قطرة دم واحدة وتدميرها. إذا يمكن اعتبار هذا العمل أول عمل تاريخي بحري يستلهم لحظات النصر! مصورا فترة تاريخية مهملة من تاريخ الصراع الاستعماري حول شمال أفريقيا.
ولو عدنا نبحث في الأسباب الكامنة وراء ذلك الابتعاد عن إنتاج هذه الأعمال البحرية لكانت التكلفة المادية هي التي ساهمت وراء هذا الانكفاء، فالتكلفة باهظة، ومثل هذه الأعمال تحتاج إلى دعم حكومي كما في مسلسل “حرب السنوات الأربع” الذي لم يكن ليخرج إلى النور لولا التمويل الخارجي الضخم من ليبيا، كما أن التحديات التقنية تشكل عائقا أساسيا، فالكثير من فرق الإنتاج والإخراج تحرص على واقعية المشاهد ومن بينها مشاهد البحر والتصوير في أماكن متعددة والتي تشكل عبئا ثقيلا على عجلة الإنتاج.
ولعل افتقاد روح المغامرة هو أيضا من هذه الأسباب الكامنة وراء عدم الإقدام على خوض تجارب بحرية تؤثث لدراما حقيقية تحكي الصراع في البحار العربية. واليوم يحظى مسلسل "البوم" (أسد البحار) باحترام خاص نظرا لفرادة موضوعه وقوة معالجته، وهو مسلسل إماراتي عالمي تجري أحداثه في الفترة ما بين عامي 1939 و1945، أي خلال فترة الحړب العالمية الثانية.
تدور أحداث المسلسل حول المغامرة البحرية والتصدي للعدو، وهو من تأليف عماد الدين حكيم، وإخراج الأسعد الوسلاتي، وبطولة عمر الملا، بدر الحكمي، ومنصور الفيلي. وتأتي أحداث مسلسل “البوم” في إطار درامي تشويقي، حيث يتناول رحلة شهاب الناصري (الممثل عمر الملا) وهو بحار إماراتي شاب يطارد حلمه في بناء إمبراطورية اقتصادية بحرية. تبدأ رحلة شهاب في ذروة الحرب العالمية الثانية، حيث يقرر مع مجموعة من البحارة خوض مغامرة بحرية على متن مركب خشبي باتجاه الهند.
يواجه شهاب خلال رحلته العديد من التحديات والمخاطر، بدءا من صعوبات الملاحة البحرية في زمن الحرب مرورا بالمنافسة الشرسة مع التجار الآخرين والإنجليز وصولا إلى الصراعات الداخلية بين أفراد طاقمه. ولعل هذا العمل يتقاطع في الكثير من أحداثه مع شخصية السندباد البحري المعروفة في ألف ليلة وليلة فكلا الشخصيتين شهاب والسندباد يحترفان التجارة ويحلمان بتحقيق الثروة، وكلاهما يتعرض للمخاطر لكنهما يستطيعان في النهاية تجاوز هذه الأزمات وتلك المخاطر والعودة مع رفاقهما إلى بلادهما بخير وسلام.
ولعل اللافت في هذا العمل هو التطرق إلى الصراع مع المحتل، فقد أغفلت الدراما الخليجية إبراز هذا الجانب في سرديتها التاريخية لنشهد في مسلسل “البوم” صراعا محتدما بين الأهالي والإنجليز الساعين لفرض الكثير من الضرائب على الأهالي، هذا الصراع الذي أخفقت المناهج العربية في تسليط الضوء عليه بل جاء باهتا لا لون له ولا حياة.
والحقيقة أن مسلسل “البوم” استطاع أن يكشف لنا صورة لا تزال مخبأة ألا وهي الصراع مع القوى الأجنبية ومنها الإنجليز هذا الصراع الذي كان طابعه في الغالب تجاريا، إذ كانت التجارة البحرية تُشكِّل المصدر الوحيد لمنطقة الخليج التي كانت في تنافس محموم مع الإنجليز، وكانت تجارتهم مع موانئ الهند.
وقد سعى الإنجليز بشتى الوسائل للقضاء على هؤلاء المنافسين من خلال إلصاق تهمة القرصنة بهم. وفي كتاب "أسطورة القرصنة العربية في الخليج”، يفند الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، تهمة القرصنة التي وجهها البريطانيون للقواسم. ويرى أن وراء تلك المزاعم "شركة الهند الشرقية" لدوافع تجارية محضة.
◙ المسلسل استطاع أن يكشف صورة لا تزال مخبأة ألا وهي الصراع مع القوى الأجنبية ومنها الإنجليز وهو صراع كان طابعه في الغالب تجاريا
لقد قاد الخليجيون طوال عقود المقاومة ضد الوجود الأجنبي ببسالة منقطعة النظير وعلى رأسهم القواسم الذين كبدوا البحرية الإنجليزية خسائر فادحة. فلماذا تنأى الدراما الخليجية عن طرح مثل هذه القضايا المشرفة، حتى يظن الإنسان العربي أن دول الخليج لم تعان من وطأة المحتلين والحقيقة مغايرة تماما؟ فالمنطقة عانت من سطوة المحتلين منذ قرون طوال.
وفي هذا ما ينفي عن المنطقة وسم "مدن الملح" الذي ألصقه بها الكاتب عبدالرحمن منيف في روايته الشهيرة. لقد اُعتبر مسلسل "البوم" رائدا في هذا الطرح من خلال تسليطه الضوء على المستعمر الإنجليزي الساعي للتحكم بمنطقة الخليج، وإبراز البطولة الحقيقية وليست المختلقة.
البطولة ليست مخصوصة بشعب دون آخر. ويرى الباحث والأكاديمي وسام رفيدي أنه لا يوجد شعب في التاريخ يستطيع بناء رواية تاريخية بدون بطولة، حتى لو اخترع هذا الشعب بعض البطولات اختراعا، فكل الشعوب لها مخزون هائل من البطولات الفردية والجماعية التي تنتمي لآلاف السنين إلى الوراء بغض النظر إن كانت صحيحة أم مؤسطرة. وهذا ما يدع الباب مفتوحا أمام الكتاب الخليجيين لاستلهام البطولة من تاريخهم الحافل بنماذج مشرفة.
لقد رصدنا في العمل الملحمي البطولة بنوعيها بطولة شهاب ورفاقه في مشاهد عديدة ولم يكن شهاب البطل الأوحد في العمل، فقد شاركه ناصر (عبدالله بن حيدر) البطولة من نوع آخر حين رفض التعاون مع الضابط الإنجليزي ويليام الذي حاول اجتذابه لصفّه للسيطرة على منطقة رأس الخيمة. وهناك البطولة الجماعية ممثلة بالبحارة والتجار وأهل رأس الخيمة الذين وقفوا في وجه ويليام الضابط الإنجليزي ورفضوا الانصياع لأوامره.
لقد استطاع هذا العمل أن يعيد إلى الأذهان الصورة الحقيقية للخليج العربي ليغدو هذا العمل ملحمة للأجيال القادمة، فقد أكد المخرج الأسعد الوسلاتي أن صنّاع المسلسل سعوا لبناء ملحمة تاريخية للأجيال بقوله "كان هدفي مع المؤلف عمادالدين الحكيم الذي تعاونت معه سابقا في العديد من الأعمال العربية، تقديم عمل للأجيال يبقى في ذاكرة المشاهد".