"البوكتيوبر" ينتهزون صراعات الكتّاب مع النقاد العرب ليسيطروا على القراء

يبدو أن القضية الأدبية الكبرى والتي ستتصدر اهتمامات القراء والكتاب والنقاد لسنوات أخرى، هي علاقة الخصام بين النقد والأدب. الخصومات بين الأدباء والنقاد ليست جديدة، حيث يعود توتر هذه العلاقة إلى قرون خلت، لكن الجديد فيها هو استفحالها إلى درجة القطيعة والحكم على النقد بالمجاملات من قبل الأدباء، وقراءة الأدب بمعايير متكلسة وجاهزة من قبل النقاد، مظهران بسيطان من مظاهر كثيرة للتضاد بين إبداعين؛ أدبي ونقدي، كان الأجدر بهما التكامل لا التنافر إلى الحد الذي غرق معه الأدب العربي شعرا وسردا في غياب المعايير وانتشار البروباغندا الأدبية وسيطرة التسويق على القيمة الأدبية، حتى أن القارئ لم يعد قادرا على التمييز الجيّد من الرديء. فإلى متى ستستمرّ هذه الخصومة؟
قبل أكثر من ألف عام كان الشاعر العربي العباسي حبيب بن أوس الطائي، المعروف بأبي تمام، يجلس في مجلس عام عندما فاجأه أحد أدباء ونقاد عصره، وهو أحمد بن أبي خالد البغدادي، المعروف بأبي سعيد الضرير، سائلا إياه بصوت عال “يا أبا تمام، لم لا تقول ما يفهم؟”، فرد الشاعر الكبير بتلقائية “وأنت يا هذا، لمَ لا تفهم ما أقول؟”.
بدا السؤال والإجابة عليه، يعكسان حالة تربص واضحة بين الطرفين، فالسائل يريد أن يقدم للشاعر نقده لما يكتب مُلخصا إياه، بأن شعره معقد ومركب حتى يكاد يكون غير مفهوم، والشاعر يريد أن يرد على ناقده مبديا الاستهانة بنقده، وواصفا إياه بقلة الفهم وضعف الاستيعاب.
هذه المشادة الشهيرة ترسم ظلال الخصومة العميقة والعتيقة بين المبدع كصانع جمال، وزارع بهجة بنصه الروائي أو القصصي أو الشعري، وبين الناقد الذي يظهر كوازن دقيق لهذا الجمال، ومُقيّم لتلك البهجة تحت تصور أنه يمتلك أدوات التقييم.
تبدو الخصومة بين المبدع والناقد، متكررة، مُتجددة، دائمة، رغم حاجة كل طرف الماسة واللازمة إلى الآخر. فالمبدع لا يمكن أن يتحقق وينتعش ويتقدم، ويطور من أدواته وتقنياته ولغته دون عين راصدة، ونفس مرشدة، والناقد لا يستطيع أن يمارس عمله ويُطبق ما درسه وهضمه من نظريات وتصورات نقدية دون نصوص إبداعية حقيقية تمثل لحم عمله.
مواجهة أعنف
رغم التباعد بين الإبداع والنقد، والخصام الظاهر بين المبدع والناقد، هناك أصوات على الجانبين تحاول ترميم جسور التلاقي
في ظل الاتساع غير المسبوق لساحات الثقافة الافتراضية بفضل تطور وسائل التكنولوجيا وسرعة التواصل بين المثقفين، ومع تعدد وتطور الجوائز الثقافية العربية، أصبح الاحتكاك بين طرفي الإبداع أكثر وضوحا وأشد عنفا، بما يعكس تجاوز الخصومة التقليدية التي رسمتها طُرفة أبي تمام وصديقه المشاغب أبي سعيد الضرير، ليصل الأمر إلى إنكار كل طرف لجدوى الآخر واستخفافه بما يُقدمه، وتباكيه على زمن الجمال الغارب في الأدب والنقد.
لم يكن غريبا أن يشن مبدعون كُثر هجوما عاتيا على حركة النقد المعاصر، ولم يكن مُدهشا أن يُكرر روائي كبير مثل المبدع السعودي عبده خال في عدة ندوات وفعاليات ثقافية ملاحظاته للنقاد والنقد عموما، وإصراره على رفض قراءة الكتابات النقدية للمشاهير منهم، بعد أن تناولت كتابات نقدية روايته “ترمي بشرر” الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” سنة 2010.
في الإطار ذاته، باتت الاستهانة بحركة النقد المعاصرة واضحة في تصريحات الروائية السورية شهلا العجيلي عندما وصلت روايتها “صيف مع العدو” إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية “البوكر” في العام قبل الماضي، عندما قالت إن الجوائز صارت بديلا لأشكال النقد التقليدية، التي غابت في السنوات الأخيرة وتحوّلت لمجرد مراجعات صحافية.
وهاجمت الكاتبة المصرية نوال السعداوي النقد العربي عموما في تصريحات شهيرة لها قبل عزلة الجائحة، حين أكدت أنه لا توجد حركة نقدية عربية.
في المقابل، لجأ نقاد كبار إلى التهوين مما يتصوره البعض فورة روائية في العالم العربي، أو انتعاشا إبداعيا، مستعيرين بيت شعر شهير للشاعر المصري المخضرم أحمد عبدالمُعطي حجازي، يقول فيه “هذا الزحام لا أحد”. في إشارة إلى غياب الجودة الأدبية رغم كثرة الإنتاج.
وفي هذا الصدد، كان هناك تصريح عنيف للناقد المغربي سعيد يقطين، أدلى به في حوار له قبل شهور لموقع “أصوات أونلاين” الإلكتروني، قال فيه، “هناك الكثير من الروائيين في العالم العربي، لكن لا توجد روايات”.
وشرح الناقد كلامه بأنه لا توجد روايات تستحق القراءة والاحتفاء، ومعظم الكتابات تتشابه في الموضوعات ولا تتميز من حيث اللغة والأسلوب.
وكشف الناقد العراقي المعروف حسن سرحان، عن نظرة النقاد للروائيين باعتبارهم خصوما يقفون في الضفة الأخرى، ويستعلون على النقاد وينتقمون منهم، وقال في ندوة افتراضية جرت قبل أشهر، إن “الرواية العربية تتسم بسمة غريبة هي عدم الاستماع للنقد، إذ ترى نفسها أعلى مقاما منه، ويصر الكثير من الروائيين على التقليل من قيمة الناقد وأهميته”.
وتساءل في حيرة، كيف يراد من النقد أن يكون ذا دور كبير في جو أقل ما يوصف به أنه معادٍ، وكاره للناقد غير المداح، يستصغر شأنه، وينقم عليه ويستخف بما قدمه من إنجازات معرفية مهمة؟
وأوضح أن “الوسط الأدبي العربي لا يحب النقد، إلا إذا كان مجاملا أو مهادنا، بحيث يكتفي الناقد بعرض النص ومناقشة أفكاره والتركيز على محاسنه وعدم الالتفات إلى عيوبه”.
أزمة حقيقية
رأي "البوكتيوبر" صار مقدما لدى القارئ العادي على رأي الناقد الأكاديمي الذي ما زال منغمسا في مصطلحات معقدة
لا غرابة في الاتهامات المتبادلة بين الفريقين، فالأمر معتاد ومتوقع، لكن الجديد أن إثبات أو نفي الاتهامات بين الفريقين لا ينفي الاعتراف بوجود أزمة ما في النقد العربي المعاصر، وهي أزمة حقيقية تتسع يوما بعد الآخر، وتؤثر على الإبداع، وتساهم في تمديد أجل القطيعة بين معشر النقاد والمبدعين، وهي أيضا أزمة لا تقع مسؤوليتها على النقاد وحدهم، إنما على المبدعين والمثقفين عامة، وعلى عصر كامل له خصائصه.
النقد لغة، ويعني تبيان الحسن والرديء في الإبداع، وهو موضوع تقييم النصوص الجمالية من خلال خطوات متسلسلة ومرتبة مثل التحليل والتفسير والتعليل، ثم التقييم بصورة متكاملة، وهذا غائب تقريبا عن الساحة العربية.
هناك أسباب عديدة وراء ذلك، أولها الاتساع الكبير في سوق الإبداع، إلى درجة يصعب معها على النقاد الإلمام التام بكل ما يُنشر ويُكتب من رواية، وقصة قصيرة، وشعر وغير ذلك من الفنون الأدبية المعروفة.
فماكينة الطباعة في العالم العربي نشيطة، وتصدر كل يوم عشرات الكتب في مختلف المجالات، ولا يمكن لمؤسسة ما أن تُحيط بكل ما يصدر من مطبوعات في العالم.
بطبيعة الحال، لا يمكن حتى الالتفات إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعا أو الأكثر رواجا، لأنها خادعة في ظل وجود وسائل تسويق عديدة ومبتكرة لا علاقة لها بمستوى وقيمة الأدب.
يقول الناقد المغربي عزيز العرباوي في إحدى محاوراته الصحافية، إن “العديد من المبدعين العرب الذين ينشرون كتبهم من خلال العديد من الوسائط لا يجيدون الكتابة الأدبية، ولا يتقنون العربية بنحوها وصرفها وإملائها، وهناك من لا يفرق بين التاء المربوطة والمبسوطة، وهو مشهور وله كتابات رائجة، فالقارئ العربي كسول ولا يحاول الوقوف على مدى صلاحية ما يقرأ”.
وأضافت سمة العصر التكنولوجي إلى ساحة الثقافة نموذجا موازيا، يبدو قريب الشبه بالناقد في التأثير، مثل “بوكتيوبر”، وهو شخص مهمته القراءة عن الغير ونقد العمل برؤية انطباعية غير علمية للنصوص الأدبية، فيقيمها بما يمنح الكاتب إجازة بقراءة عمله أو تنفير عن قراءته، خاصة أنه محل ثقة جمهور كبير من القراء لا يتخذ قرار شراء الكتاب، فما بالك قراءته، إلا بعد توصية “بوكتيوبر” من الثقات.
ورأي “البوكتيوبر” مقدّم لدى القارئ العادي على رأي الناقد الأكاديمي الذي ما زال منغمسا في مصطلحات شديدة التعقيد، في الغالب لا يفهمها بعض القراء من عينة “البنيوية”، أو “التفكيكية”.
أزمة أخرى يمر بها النقد العربي، يُمكن تلخيصها في عنوان واسع، وهو ضعف الثقة في النقاد، وفي كلمة “النقد” ذاتها. وقد تولدت هذه الأزمة مع ازدهار ظاهرة الجوائز الأدبية العربية، وتلسُّن بعض المبدعين غير الفائزين فيها على النقاد الأعضاء في اللجان التحكيمية، وإثارتهم لبعض شبهات الفساد في تلك اللجان، وهو أمر طبيعي، لكن في ظل الأزمة التي يعاني منها النقد حاليا، فإن الصورة الذهنية السائدة عنه تزداد قتامة.
ناهيك عن رؤية عامة ممتدة منذ عقود، ترتبط ارتباطا وثيقا بالتعليم وتفترض تدهوره في العالم العربي، نتيجة الحرص على حشد المعلومات كميّا دون تنمية القدرة على الابتكار والإبداع الذاتي. وهنا، فإن النقد نفسه يعدّ عملا إبداعيا محضا، وليس مجرد قولبة لنظريات عامة وتمرير لنصوص أدبية عليها بغرض الوصول إلى نتائج تقييمية.
جسور للتلاقي
رغم التباعد بين الإبداع والنقد، والخصام الظاهر بين المبدع والناقد، هناك أصوات على الجانبين، تدرك ضرورة ترميم جسور التلاقي ونسج صلات التآلف والترابط، إيمانا بأن كل طرف لا يمكنه التطوّر والازدهار دون الآخر، فتطبيع العلاقات بين الأدب والنقد ضرورة تفرضها اللحظة الراهنة بما تتسم به من ازدحام تدويني، وسرعة تداول للنصوص، واستخدام وسائل تسويق وترويج تكنولوجية تُنتج الكثير من النجوم الزائفة والقيم غير الحقيقية.
وهي ضرورة تفرضها الرغبة في إفاقة كل من اللونين الكتابيين، سواء الإبداع أو النقد، فهما في حاجة إلى تطوير وتحليق في سماوات أرحب وممارسة تجريب لافت، وتقديم أفكار جديدة لم تطرح من قبل، ويستلزم ذلك لغة مشتركة، وغير معقدة، قادرة على توصيل رؤى النقد إلى جمهور الثقافة ببساطة وسلاسة.
وحسبنا أن نستعير هنا عبارة الممثل الأميركي فرانك كلارك عندما قال “إن النقد مثل المطر ينبغي أن يكون يسيرا بما يكفي ليُغذي نمو الإنسان دون أن يدمر جذوره”.
وقال لي ناقد شهير، إن هناك مستويات متعددة لطرح الخطاب النقدي، منها مستوى خاص بالجمهور العام، وهو ما يكون في الندوات الثقافية وحفلات التوقيع، أشبه بقراءة عادية تخلو من المصطلحات والنظريات، وهناك مستوى آخر خاص بالأدباء والمبدعين وفيه أيضا يتم تبسيط اللغة ليصل مرادها برفق وفهم وتترك أثرا نافعا، وهناك مستوى أكاديمي يتم فيه طرح أفكار النقد بشكل علمي تنظيري، ومكانه الجامعات والمراكز البحثية والعلمية.
على النقاد التوقف عن ممارسة الوصاية الاستعلائية على المبدعين، وخاصة الشباب منهم الذين يشتعلون حماسا لكسر النظريات النقدية المألوفة، ظنا أن التجديد يستلزم مثل هذا النهج.
كما أن نظرة المبدعين إلى النقد باعتباره كتابة هامشية تغلب عليها المجاملات والحسابات، هي نظرة لا يصح استمرارها، وبالتالي فنحن بحاجة إلى حلقات لحوار مستمر يتجاوز رجم الآخر، ويتسق مع تصور اتساع أرضية الثقافة لتستوعب جميع ألوان الكتابة وعلى رأسها النقد. ومثل هذه الطروحات ضرورية، وتنفيذها سهل مع تعدد مبادرات تشجيع الثقافة العربية في مواجهة التحديات المختلفة.