البودكاست وجبة فكرية متكاملة تجذب الشباب السعوديين

تعكس أرقام متابعة المدونات الصوتية في السعودية المدى الذي بلغته كأسلوب إعلامي يصل بسلاسة إلى جمهور الشباب، باعتبارها وسيلة للتثقيف وإيصال الفكرة، والتعبير عن مشاكل المجتمع، وسبرت أغوارا يصعب على الإعلام التقليدي أو الاجتماعي مناقشتها بجودة عالية.
الرياض - حقّق برنامج البودكاست السعودي “فنجان” رقما قياسيا على يوتيوب، حيث تجاوز عدد مشاهدات حلقة “كيف تنجح العلاقات” مع المدرّب المعتمد في مجال تطوير العلاقات ومهارات الاتصال ياسر الحزيمي أكثر من 100 مليون مشاهدة خلال مدة لم تتجاوز عامًا ونصف العام، وهو مؤشر على ما يحظى به البودكاست من جماهيرية في السعودية، خصوصا بين الشباب.
وقالت منصة ثمانية السعودية إن حلقة البودكاست أصبحت الأكثر مشاهدة على يوتيوب عالميًا حتى الآن، متجاوزةً حلقة جو روغان مع إيلون ماسك التي نالت 69 مليون مشاهدة بعد خمسة أعوام من نشرها. وفي محاضرة للبروفيسور وائل حلاق أشار إلى أن وصول حلقة تطرح موضوع “العلاقات الاجتماعية” إلى هذه الشرائح الواسعة يحمل دلالة على أن الناس في المجتمعات العربية تعيش حالة من القلق إزاء علاقاتها الاجتماعية.
وامتدّت الحلقة إلى ثلاث ساعات، وتناولت أهم أركان العلاقات الإنسانية، والفرق بين حبّ الذات والغرور، وكيف يحقّق الإنسان التوازن في علاقاته. وكان 74 في المئة من المشاهدين خارج السعودية، والفئة العمرية 25 – 34 هي الأكثر مشاهدة، و21 في المئة شاهدوها بالترجمة الإنجليزية. وفيما تنوّعت التفسيرات حول سرّ الانتشار الاستثنائي للحلقة، اتّفق جمهورها في تعليقات عديدة على القبول الذي يحظى به الضيف، وحاجة المجتمع الماسّة إلى فهم ديناميكيات العلاقات الاجتماعية، خاصة في ظلّ تحدّيات الحياة المعاصرة.
وعبّر الحزيمي عن تفاجئه بالنجاح الكبير الذي حقّقته حلقته في “فنجان”، مشيرًا إلى أنّ الأهم بالنسبة إليه هو التأثير الإيجابي الذي يمكن أن تتركه الحلقة حتى لو كان التأثير في مستمعٍ واحد. وقد أكّد على تميّز مقدّم البرنامج عبدالرحمن أبومالح في إدارة الحوارات بطريقة تخدم المتحدث والمستمع وتُظهر الحوار بصورة طبيعية غير متكلفة.
◙ هجرة كبيرة من الشاشات إلى منصات البودكاست نظرا إلى جودة المحتوى وسهولة الوصول الذي يعتمد الهواتف الذكية
وهناك نحو 10 ملايين مستمع للبودكاست في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكانت البداية في الخليج شبابية يغلب عليها طابع الترفيه، ثم أصبحت هذه الظاهرة لاحقاً وسيلة للتثقيف وإيصال الفكرة والتعبير عن مشاكل المجتمع، وسبرت أغواراً يصعب على الإعلام التقليدي أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي الوصول إليها أو مناقشتها بجودة عالية. وتوسعت ظاهرة البودكاست في دول الخليج لتنتقل إلى الإمارات وسلطنة عُمان والبحرين، لكن السعودية أصبحت السوق الأكثر جاذبية لهذا النوع من البرامج الحديثة.
ومن بين أسباب المتابعة المكثفة للمدونات الصوتية في السعودية ملْء أوقات الفراغ في المنزل والازدحام المروري، وتبين الإحصاءات أن السعودية تتصدر الدول العربية في نمو هذا القطاع وأعداد المتابعين للبودكاست والذين كانوا قد تجاوزوا 5.1 مليون سعودي عام 2020، فيما باتوا اليوم يشكلون 56 في المئة من نسبة السكان البالغ عددهم نحو 37 مليون نسمة، وفق دراسة حديثة أعدتها جامعة “نورث ويسترن” ومؤسسة “الدوحة للأفلام” حول أعداد متابعي البودكاست في الدول العربية.
ويسعى الكثير من الشباب السعودي للاستفادة من الوقت الضائع بنشاطات مناسبة خلال القيادة، تعوض خسارة الوقت، في طليعتها الاستماع إلى البودكاست الذي بات يلقى رواجاً وإقبالاً واسعاً من الجمهور السعودي. وتعكس الأرقام المدى الذي بلغه البودكاست كأسلوب إعلامي في الوصول إلى الجمهور، والذي يكاد يكون الأكثر انتشاراً في بلد يستخدم 99 في المئة من سكانه الإنترنت عام 2023 بحسب تقرير لهيئة الاتصالات السعودية، فيما يقضي 52.3 في المئة منهم 7 ساعات فأكثر يوميًا في استخدام الإنترنت، ويجري ذلك بنسبة 84.7 في المئة من المنزل، و72 في المئة أثناء التنقل، و43.4 في المئة من مواقع العمل.
ويرى متابعون أن الجيل الجديد من الشباب صار يهجر التلفزيون والإذاعة لصالح المدونات الصوتية التي باتت تمثل آخر صيحة في عالم الإعلام الجديد المرتبط ارتباطا وثيقاً بالتقدم التكنولوجي والتقني، كما اتجه الكثير من صناع المحتوى إلى إنتاج البودكاست لهذا السبب بالإضافة إلى انخفاض الكلفة مقارنة بالشاشة. وهناك تفاعل جماهيري مع البودكاست أكبر بكثير من برامج الإعلام التقليدي، حيث وجد الجمهور في البودكاست مساحة أكثر عمقا وأكثر دخولا للتفاصيل الدقيقة، “بلغة محكية، عامية، سهلة ومجردة من قواعد اللغة ومحسناتها البلاغية التي لا تعني الغالبية من الناس”.
وتقف خلف الانتشار الواسع للبودكاست في السعودية عوامل وأسباب عدة، على رأسها الحاجة إلى طرح مواضيع ونقاشات معينة لم تنجح برامج التلفزيون والإذاعة في عرضها أو الوصول إلى جمهورها، مثل مجال الألعاب الإلكترونية والصيحات التكنولوجية والتحليل الرياضي والمشاكل النفسية، وغيرها. وبدأ ظهور أولى أشكال البودكاست المحلي في السعودية خلال أواخر عام 2008 ومطلع 2009، ليعود ويشهد حضوراً أوسع منذ عام 2017.
ثم جاءت فترة الحجر الصحي التي رافقت انتشار جائحة كورونا لتشكل الدافع الأكبر لنهضة البودكاست وانتشاره؛ حيث ازداد اعتماد الناس على الإنترنت للتواصل والحوار والتباحث في القضايا، وشكلت المدونات الصوتية مساحة ملائمة لذلك، ساعدت في ممارسة الحياة الاجتماعية وتمضية الوقت والاستفادة من المعلومات والالتفاف على العزلة.
ويظهر تقرير صادر عن معهد رويترز أن هناك هجرة ضخمة من الشاشات إلى منصات البودكاست نظرًا إلى جودة المحتوى، وسهولة الوصول الذي يعتمد الهواتف الذكية، وتكنولوجيا إنترنت الأشياء، وما نتج عنها من سماعات ناطقة أو أجهزة مثل غوغل هوم، ستجعل المحتوى الصوتي الوجهة الأولى، خصوصًا بعد دخول شركات ضخمة إلى عالم صناعة البودكاست، وانتشار تطبيقات الأخبار على هذه المنصات.
ووفق إحصاء نشرته شركة “ماركتيرز” الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2020، حول صناعة البودكاست في السعودية، فقد عبر 93 في المئة من المشاركين عن أنهم “يثقون في البودكاست أكثر من أي وسيلة إعلامية أخرى، مثل التلفزيون والصحف والراديو والمواقع الإلكترونية”.
ومن مميزات البودكاست أنه يتيح للجمهور إبداء الرأي ومراجعة المعلومات ومحاسبة البودكاست والضيوف على ما يرد في الحلقات من معلومات مغلوطة مثلاً، كما يتيح للناس التخلي عن متابعة بودكاست معين في حال استمراره في بث معلومات من هذا النوع، وهذا ما لا تتيحه الشاشات أو البرامج التقليدية.
◙ من مميزات البودكاست أنه يتيح للجمهور إبداء الرأي ومراجعة المعلومات ومحاسبة الضيوف على ما يرد في الحلقات من معلومات مغلوطة مثلا
وبينما يستخدم 75 في المئة من الجمهور هواتفهم الذكية للاستماع إلى ملفات البودكاست، تظهر الأرقام تزايداً واضحاً في الاعتماد أيضاً على الأجهزة المنزلية للاستماع إلى البودكاست، حيث ارتفعت نسبة الاستماع من خلال أجهزة التلفزيون الذكية إلى 66 في المئة، وعلى الأجهزة اللوحية بنسبة 18 في المئة، وعلى أجهزة الكمبيوتر بنسبة 15 في المئة.
وأظهر الإحصاء أن أكثر من ثلثي المشاركين يحبون الاستماع إلى المحتوى الذي يهتمون به على وجه التحديد، بالإضافة إلى أكثر من 61 في المئة يستمتعون بحرية الاستماع أثناء قيامهم بأشياء أخرى، حيث يفضل الكثيرون ما يتيحه البودكاست من تنوع.
وفي السعودية لئن انقسمت اللغات المستخدمة في البودكاسات إلى اللغتين الإنجليزية والعربية، فإن اللغة العربية تبقى المفضلة، لاسيما العامية المحكية، حيث يوضح التقرير أن أفضل البودكاسات أداءً في السعودية هي تلك التي تتعمق وتتطور في الثقافة المحلية؛ حيث شهدت السنوات الماضية زيادة كبيرة في المدونات الصوتية التي تعكس ثقافة المنطقة وعادات شعبها، وتتحدث باللغة العربية وتحتفل بهوية ثقافية فريدة.
ويحتل الترفيه، بجميع أنواعه الفرعية، الصدارة من حيث المحتوى المفضل للجمهور السعودي، يليه الفن، والرياضة، والدين، والأخبار، والرفاهية، والتعليم، والكوميديا، والتكنولوجيا. وكشف إحصاء نادي دبي للصحافة أن أكثر التحديات التي عبر عنها صناع البودكاست كانت في الاستدامة، من ناحية التمويل والرعاية بحسب 75 في المئة من المشاركين، بينما عبر بعض المشاركين عن هواجس تتعلق بالاستمرارية من ناحية إيجاد مواضيع شائقة وذات أهمية من أجل بناء محتوى عالي الجودة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى تحدي الوصول إلى الجماهير وزيادة المتابعين ونسبة التفاعل، لاسيما مع قلة المنصات المخصصة للبودكاست في الدول العربية، وعبر البعض الآخر عن تحديات تتعلق بتحقيق الدخل والقدرة على التسويق للبودكاست وبدرجة أقل وجد بعض المشاركين تحديات تتعلق بالوقت اللازم لإعداد وإنتاج البودكاست ومشاكل في الدعم التقني من ناحية المعدات المناسبة.
وتنسحب تلك التحديات على المشهد في السعودية، إذ أن التمويل يمثل أبرز التحديات، والبودكاست كما أي مشروع تجاري او استثمار آخر بات يتطلب وجود رأسمال لتأمين تكاليف الإنتاج والتسويق، وهو ما تتولاه جهات ممولة مقابل إعلانات. وبالنظر إلى سوق البودكاست عالميّا تتصدر الولايات المتحدة القائمة، في الوقت الذي تشير فيه الأرقام إلى أنه بحلول عام 2027 سوف يتجاوز سوق البودكاست 66 مليار دولار.