البكاء على سمعة المسيح وسمعة الإسلام المنسية

واقعة لوحة العشاء الأخير في حفل الأولمبياد تؤكد أن الدولة الفرنسية لم تقف في السابق ضد المسلمين أثناء وقائع الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للإسلام إنما كانت تحمي حرية التعبير وتحمي علمانيتها.
الخميس 2024/08/01
ليبرالية جديدة لا حدود لها ولا سقف

الإدانة الصادرة عن اتحاد علماء المسلمين، وهو مرجع الإخوان الفقهي، للمحاكاة الساخرة من قبل أحد عروض افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس للوحة العشاء الأخير للفنان ليوناردو دافينشي، وتمثل المشهد الشهير للسيد المسيح والحواريين وهم يتشاركون وجبة أخيرة قبل الصلب وفق العقيدة المسيحية، أراد منها التنظيم غسل يده من إشعال الصراعات بين معتنقي الأديان والترويج لمعاداة المسيحية واليهودية لأهداف سياسية.

وصف بيان اتحاد الإخوان الحفل بأنه يمثل “انحدارًا أخلاقيّا غير مسبوق وتعديًا سافرًا على القيم الروحية والمبادئ الإنسانية وعلى مشاعر جميع المؤمنين بالله ورسله”، كما لو كان صادرًا عن مؤسسة علمية ناضلت لترسيخ الثوابت القرآنية التي تجعل توقير كل الأنبياء أساسًا لعلاقات أخوة مع المؤمنين بالأديان السماوية، بينما تاريخه وحاضره يثبت أنه كفرهم واستباح مقدساتهم وممتلكاتهم باسم الإسلام في الدول العربية.

كما حمّل تاليًا بعض المهاجرين إلى دول العالم المفاهيم المغلوطة المُشوّهة للإسلام، منها تكفير كل من هو غير مسلم والحكم عليه بأنه من أهل جهنم.

تباكى البيان على سمعة السيد المسيح، في حين لم يبذل علماؤه جهدًا يُذكر في إزالة معاداة المسيحية واليهودية التي أنشأها قادة ومفكرو جماعة الإخوان عندما سيسوا الآيات القرآنية واضعين المسلمين إلى الأبد في صراع حضاري محتدم مع الغرب (المسيحي واليهودي).

◄ سلوك قطاع من المسلمين في أوروبا يشي بأنه لم يتلق الإرشادات ولم يتشرب المفاهيم الصحيحة التي تجعله بما يعتنقه من دين بعيدا عن تقديم مادة تحريضية مجانية لكراهية الإسلام

حركيّا ومنذ نشأة جماعة الإخوان لا يزال هيكلها قائمًا متضمنًا منظمة دولية تسمى التنظيم الدولي، ليس هرميّا يصدر توجيهات إلى فروعه العالمية، بل عقدة مركزية تدفع باتجاه واحد ونحو هدف واحد، وفقًا لمنهجية رسمها مرشد الجماعة الأول حسن البنا في “رسالة الجهاد” موجهًا إلى أن “الجهاد هو قتل الكفار ونحوه من ضربهم ونهب أموالهم وهدم معابدهم وكسر أصنامهم، والواجب محاربتهم بعد إرسال الدعوة لاعتناق الإسلام حتى لو لم يحاربونا”.

لم يتبرأ عناصر اتحاد علماء المسلمين المتباكون على الإساءة للمسيح، ولا غيرهم من تشكيلات الإخوان الدعوية والفكرية، من كلمات البنا التي طورها وعمقها سيد قطب، وشعارها سيفان متقاطعان ومقطع من القرآن يتناول الإعداد للجهاد والحرب.

عناصر داعش والقاعدة هم من ضمن من تلقفوا هذا النهج الشاذ عن أصول الدين الإسلامي وتعاليمه، وفي ذروة حملة الهجمات الخارجية التي شُنت قبل عقد من الزمن كانت فرنسا الدولة الأكثر استهدافًا، وما كانت العمليات التي دُبرت في الخارج لينجح تنفيذها لولا مساعدة من قبل سكان داخل فرنسا تحولوا إلى التطرف بفضل جهود ودعاية جماعة الإخوان التي تعد أم كل الجماعات الجهادية بأيديولوجيتها الشمولية التكفيرية المعادية لكل من اختلف معها في المذهب والمعتقد والانتماء السياسي.

ربما جاء بيان الإدانة الصادر عن مؤسسة الأزهر مفهومًا في إطار دورها العام المنصوص عليه دستوريّا، خاصة أن تجسيد اللوحة أثناء حفل الافتتاح بواسطة متحولين جنسيّا “يعكس الاتجاه نحو الانقضاض على الأديان خاصة المسيحية واستبدالها بمشهد شهواني جندري يرمز لانتصار إله اللذة على إله الألم”.

لكن طبقًا لسياق المهام والأدوار أيضًا لم تقم المؤسسات الدينية بما يجب عليها حيال قرابة الستة ملايين مسلم يتعرضون في فرنسا للمزيد من الخوف والعزل والعنصرية أحيانا، مع أنهم مسالمون وغالبيتهم حداثيون علمانيون، فقد وُضعوا جميعًا تحت الاشتباه في كونهم إرهابيين.

لم يظهر أثر واضح لدور الأزهر الشريف، وهو أهم وأكبر مؤسسة علمية دينية في العالم، في وقت تُركت فرنسا تكافح لمعرفة سبب تحولها إلى هدف رئيسي للمتطرفين والانفصاليين وتجتهد في التوصل إلى حل والكيفية التي ترد بها لتحمي هويتها ومجتمعها، إلى أن سنت تشريعات تمكنها من شن حرب ضد المتطرفين الإسلاميين وإغلاق منظمات الحقوق المدنية الفرنسية الإسلامية ومدارس تعليم اللغة العربية، بعد أن توافقت نخبها السياسية والفكرية على أن البلد الحضاري التاريخي مُستهدف من قبل الإرهابيين بسبب حرية التعبير والحق في الاعتقاد أو عدم الاعتقاد.

زيارة رمز من رموز الأزهر إلى إندونيسيا مضمونة النتائج على مختلف المستويات نظرًا للعديد من العوامل المعروفة، ما ينعكس دائمًا على المشهد الكرنفالي المهيب المصاحب لها، وما يمثل تحديًا حقيقيّا هو الذهاب إلى دول الاتحاد الأوروبي والانخراط في تعقيدات ومشكلات نحو 25 مليون مسلم هناك، يشكل وجودهم أساسًا للنقاش بل في بعض أجزاء أوروبا للخوف والكراهية الصريحة، في وقت لم تشهد القارة الأوروبية هذا المستوى من الشك المتبادل بين المسلمين ومجتمعاتهم وحكوماتهم.

◄ حركيّا ومنذ نشأة جماعة الإخوان لا يزال هيكلها قائمًا متضمنًا منظمة دولية تسمى التنظيم الدولي، ليس هرميّا يصدر توجيهات إلى فروعه العالمية، بل عقدة مركزية تدفع باتجاه واحد ونحو هدف واحد

قبل الخوف على الأديان من “تبشيريين شواذ” مفترضين كان ينبغي الإسهام في التصدي لموجة العداء للإسلام الذي يكتسب أرضية جديدة يوميّا في فرنسا، باعتباره العامل الذي يتضمن مخاطر تهدد بقاء ووحدة المجتمع والدولة عبر نشاطات مريبة ومُمولة لانفصاليين لا يرغبون في الانتماء إلى الدولة.

اعترفت أوروبا، خاصة فرنسا، بحقيقة أن المسلمين يشكلون جزءًا منها، ونفى قطاع كبير من الأجيال الجديدة المسلمة هناك تعرضه لمعاداة الإسلام، وأكد أنه مندمج في مجتمعاته الأوروبية ويشغل أغلبه مناصب مسؤولة في المؤسسات الخاصة والحكومية، فعلى عاتق من تقع مسؤولية الرفض المتزايد للمسلمين الأوروبيين والنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديدًا للهوية الوطنية والأمن الداخلي والنسيج الاجتماعي.

لا تقتصر المشكلات الكبيرة على تزايد العداء العنصري ضد المسلمين ونشاط تيار الانفصالية، وإنما تشمل بروز جيل جديد داخل أسر مسلمة توقف عن اعتناق الإسلام، وانتشار ظاهرة مجموعات “المسلمين السابقين” في العديد من دول أوروبا بسبب التخبط في الخطاب الديني ونشاطات اليمين الراديكالي، كما أن هناك صراعا يدور بين قطاع من المسلمين في أوروبا يعتنق الرؤى المحافظة وآخر منفتح على العلمانية والحداثة.

كشف مشهد افتتاح الأولمبياد في باريس اتجاه العالم نحو ليبرالية جديدة لا حد لها ولا سقف، في حين يشي سلوك قطاع من المسلمين في أوروبا بأنه لم يتلق الإرشادات ولم يتشرب المفاهيم الصحيحة التي تجعله بما يعتنقه من دين بعيدا عن تقديم مادة تحريضية مجانية لكراهية الإسلام، إلى درجة أن البعض قطع الطرق العامة لأداء صلاة الجمعة في شوارع المدن الأوروبية الكبرى وتعمد رفع الأذان في صلاة الفجر، ما يزعج جيران المسجد من غير المسلمين.

تؤكد واقعة لوحة “العشاء الأخير” في حفل الأولمبياد أن الدولة الفرنسية لم تقف في السابق ضد المسلمين أثناء وقائع الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للإسلام، إنما كانت تحمي حرية التعبير وتحمي علمانيتها وفقًا لقناعاتها، فأين في أوروبا من سعى ومول ورعى خطط حماية سمعة الإسلام، بدلا من التنافس في مشهد البكاء على سمعة المسيح.

9