البشر والحجر

الخميس 2016/02/18

في الأيّام القليلة القادمة (في شهر نيسان تحديدا) سوف يُفاجَأ زوّار لندن بانتصاب معبد بعل، الذي دمّره الدّاعشيّون الصّيف الماضي، في ساحة ترافلغار سكوير، مثلما سيفاجأ القادمون إلى نيويورك بنهوض المعبد نفسه في تايمز سكوير. وما ذلك انبعاث من رماد، كالعنقاء، أو تناسخ كما في الأساطير القديمة، وإنّما هي عملية إعادة إنتاج للمعلم التاريخيّ المدكوك في حجمه الطبيعيّ عن طريق تكنولوجيا الطّباعة بالأبعاد الثلاثة. هذا المشروع، الذي تمّ بمبادرة من المعهد البريطاني للتكنولوجيا الرّقمية، هو ثمرة تعاون بين جامعتي أكسفورد البريطانية وهارفارد الأميركية ومتحف المستقبل بدبي، في نطاق مشروع ضخم يهدف إلى المحافظة على التراث وفق تقنية رقميّة.

ويقوم المشروع على التقاط صور للمعالم الأثرية المهدّدة بالتخريب والتدمير، وتحميل معطياتها للاحتفاظ بها افتراضيّا، ثمّ إعادة تشكيلها مثلما كانت. والغرض كما صرّح روجيه ميشيل مدير المعهد “لفت الاهتمام لما يجري في العراق وسوريا وليبيا، وتبليغ الإرهابيين رسالة مفادها؛ إن دمّروا شيئا فسوف نعيد بناءه”.

وفي السّياق نفسه، عرض رئيس متحف اللوفر خطّة، برعاية الرئيس فرانسوا هولاند، تحتوي على خمسين مقترحا لحماية التراث الإنسانيّ من إتلاف المتلفين، من بينها بعث ملاجئ للتحف الأثرية، وتعميم ذلك على البقع التي تشهد نزاعات مسلّحة. وتحتوي الخطّة أيضا على مقترح يدعو إلى بعث صندوق خاص لصيانة ذلك التراث وإعادة بنائه حينما تضع الحروب أوزارها، وآخر يوصي بإنشاء هيكل على المستوى الأوروبي يتولى جمع معطيات رقمية عن المواقع الأثرية المهدّدة.

كل هذا جيّد، لأن تلك المعالم إرث الإنسانيّة وذاكرتها، ولا بدّ من تضافر الجهود لإنقاذها من مخالب داعش، التي تتظاهر بمقت الأصنام فيما هي تملأ خزائنها من بيع التّحف النفيسة، بل إن لها فريقا خاصّا من علماء الآثار للحفر والتنقيب بوسائل متطورة.

ولكن المفارقة أنّ الغرب الذي يمنح “حقّ اللجوء” للحجر خشيةَ تلَفه وتدميره، يوصد الأبواب، وحتى النّوافذ، في وجوه الفارّين من الموت، وكأن الحجر لديه أهمّ من البشر. فلا حديث اليوم في أوروبا كلّها إلّا عن المهاجرين، الذين أقيمت لصدّهم حواجز حدوديّة وجدران عازلة وأسلاك شائكة، وأُسّست لمنع قدومهم أحزاب وجمعيّات، وكأنّهم غزاة أو مرضى يحملون طيّ إهابهم أشدّ الأوبئة فتكا، حتّى أننا لنحار في فهم مجتمعات ترفع شعار الدّفاع عن حقوق الإنسان، وتفضّل الحجر على البشر.

لكم يبدو بعيدا صوت مونتاني حين يقول “كلّ من كان في وضع بائس هو شريكي في المواطنة”، دون أن يشترط عِرقا أو لونا أو ملّة.

كاتب من تونس مقيم بباريس

15