البرمجيات والخوارزميات تنافس القلم في كتابة أدب الطفل

صارت التكنولوجيات الحديثة والمواقع الافتراضية والتطبيقات الرقمية، على غرار تطبيقات الذكاء الاصطناعي، متداخلة مع حياتنا اليومية بشكل كبير، خاصة مع الأجيال الناشئة التي تتشكل هويتها في هذا الواقع المختلف، ما يؤثر حتما على بنائها المعرفي والنفسي وهوياتها، تأثير فيه الإيجابي والسلبي وفق استطلاعنا لآراء الكتاب والمختصين.
خميس الصلتي
مسقط- يأتي تأثير الذكاء الاصطناعي ليشكل واقعا مهما في نقل المعرفة والعلوم الإنسانية بصور غير تقليدية، وينطبق ذلك على حل الإشكاليات المعرفية المرتبطة بالذكاء البشري، بما فيها الإبداع والابتكار والتعليم بشتى صنوفه، ولأن هذا الذكاء يمكّن من حلحلة الكثير من القضايا المعقدة في الواقع المعيش، ويدخل عنوة في صياغة العديد من الأفكار والرؤى الأدبية والفكرية، مع إيجاد عوالم فائقة السرعة للتعامل مع ما من شأنه تحسين واقع الأعمال والتجارب.
وفي هذا السياق يأتي الذكاء الاصطناعي ليشكل واقعا مهما في تفعيل ماهيته بواقع الهوية في سياق أدب الطفل، من خلال سياقات متعددة، مرورا بالنتائج الملموسة المترتبة على هذا التفعيل مع الهوية، وما يمكن العمل عليه من مفردات أدبية وأنماط ثقافية في أدب الطفل.
آفاق وتحديات
في هذا الصدد يقول يعرب بن علي المعمري، وهو مختص في الذكاء الاصطناعي، إن “الأدب هو الحلم الذي يحمله الإنسان لينتقل به من عتمة الواقع إلى أفق الخيال،” كما قال الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو.
ويضيف “في عالم اليوم حيث الذكاء الاصطناعي أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا تتغير أساليب إنتاج الأدب بشكل جذري، فلم يعد القلم وحده أداة الإبداع بل انضمت إليه البرمجيات والخوارزميات لتفتح آفاقا جديدة في السرد القصصي خاصة في أدب الطفل، والذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في صياغة تجارب أدبية تتجاوز الحدود التقليدية لتصبح منصات تفاعلية تعزز الهوية الثقافية وتثير فضول الأطفال نحو الابتكار، لكن، كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ وما الذي يتطلبه المشتغل على الذكاء الاصطناعي ليكون متمكنا من أدواته في هذا المجال؟”
ويوضح “أولا يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى بنية أساسية قوية تعتمد على الفهم العميق للتقنيات مثل التعلم الآلي والشبكات العصبية، وهي الأسس التي تمكّن من إيجاد تجارب أدبية مخصصة تتناسب مع احتياجات الأطفال العاطفية والمعرفية، والمشتغل على هذا المجال يجب أن يكون على دراية بكيفية بناء نماذج تعتمد على التفاعل المستمر مع الأطفال بحيث تتعلم هذه الأنظمة تفضيلاتهم وتقدم لهم محتوى يتكيف مع مستوى فهمهم واهتماماتهم، وعلى سبيل المثال يمكن للقصص التفاعلية الموجهة للأطفال أن توفر تجارب سردية قابلة للتخصيص مما يعزز مهارات التفكير النقدي لديهم.”
ويبين أنه إلى جانب الخبرة التقنية “يحتاج المشتغل إلى وعي ثقافي عميق، فالهوية ليست مجرد إطار نظري بل هي واقع يومي يتفاعل معه الأطفال من خلال الأدب وعلى هذا الأساس يجب أن يتم تطوير المحتوى المدعوم بالذكاء الاصطناعي بطريقة تتفاعل مع قيم المجتمع وتُقدم الثقافة المحلية بشكل يُثري خيال الأطفال ويعزز انتماءهم، فالقصص التي تتيح للأطفال الاختيار بين شخصيات متنوعة أو إعادة صياغة النهاية يمكن أن تسهم في تعزيز القيم مثل التعاون، والاحترام، والانفتاح على الآخرين.”
ويلفت إلى أن النتائج الملموسة لهذا التفاعل بين الذكاء الاصطناعي وأدب الطفل تتجلى في إنتاج تجارب تعليمية وثقافية أكثر شمولا وتفاعلا، والأدوات الذكية التي تتعلم من تفاعلات الطفل يمكن أن تولد قصصا تلبي احتياجاته مما يجعل التعلم ممتعا وشخصيا، بما يسهم في تطوير مهارات التفكير الإبداعي لدى الأطفال ويعزز من قدرتهم على التعبير عن هويتهم الثقافية بطريقة مبتكرة.
وتتحدث الكاتبة في مجال أدب الطفل مريم بنت عبدالله السلمانية عن واقع الذكاء الاصطناعي والهوية في أدب الطفل قائلة “أصبح الذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وامتد تأثيره إلى مجالات مختلفة، بما في ذلك أدب الطفل، حيث يتم إصدار العديد من الكتب بنصوص كُتبت بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي، أو لوحات رسمها الذكاء الاصطناعي، كما بدأ الذكاء الاصطناعي يترك بصماته في أدب الطفل بشكل واضح من خلال الشخصيات الروبوتية، والموضوعات والأفكار المستقبلية التي تتناولها بعض كتب الأطفال.”
وتشير إلى أن الذكاء الاصطناعي أوجد مصطلحات جديدة في عالم الطفل، مثل “إنترنت الأشياء”، و”العملات الرقمية”، و”أنسنة الآلات”، وغيرها من المصطلحات، وهي مؤثرة بدورها في تشكيل الهوية الثقافية للطفل، الذي يكتشف عالمه من خلال القصص التي يقرؤها أو يشاهدها ويتفاعل معها.
مريم بنت عبدالله السلمانية: الذكاء الاصطناعي أوجد مصطلحات جديدة في عالم الطفل
وتشدد السلمانية على أن الذكاء الاصطناعي يسهم في تعزيز التفكير الناقد والإبداعي لدى الطفل، عبر إثارة تساؤلات مثل “ماذا يحدث لو فقدنا السيطرة على الذكاء الاصطناعي؟” و”هل يمكن للروبوت أن يفكر ويختار؟”، وغيرها من التساؤلات التي تسهم في بناء فضول الأطفال وتوجههم نحو التفكير الإبداعي.
وتقول الكاتبة “تسهم القصص التي تتناول الذكاء الاصطناعي كموضوع، في إعداد الأطفال للتعامل مع التحديات المستقبلية التي قد يواجهونها، وتتيح لهم فرصة التفكير في توظيف التكنولوجيا بشكل أخلاقي، مما يعزز قدرتهم على اتخاذ القرارات الصحيحة. ويمكن أن تنمي هذه القصص اهتمام الأطفال بمجالات العلوم والبرمجة، وتدفعهم نحو الابتكار وتطوير حلول مستقبلية، وبالرغم من الفرص والآفاق الجديدة التي يضيفها الذكاء الاصطناعي إلى أدب الطفل، إلا أنه يحمل تحديات كثيرة للكتاب والعاملين في صناعة أدب الطفل.”
وتتابع “هناك التحديات اللغوية التي تتضمن تعريب كلمات جديدة، وتبسيط مفاهيم معقدة ومجردة، والتحديات المرتبطة بالعمق العاطفي، حيث تتسم الموضوعات التكنولوجية بالجمود، مما يصعب على الطفل التفاعل معها، ويستدعي من الكُتاب بذل جهد إضافي لإدخال المشاعر الإنسانية كعنصر فاعل في حبكة الكتب، كما بات التفاعل مع الذكاء الاصطناعي في أدب الطفل ضرورة تعزز فهم الطفل للتكنولوجيا كجزء أساسي في الحياة، وتسهم في تشكيل هويته الثقافية، وتنمية تفكيره الناقد والابتكاري وإعداده للمستقبل. وينبغي على الكُتاب والمبدعين الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوظيفها بحذر؛ لمواجهة التحديات التي يحملها، وضمان الحفاظ على القيم الثقافية وتعزيز الهوية لدى الأطفال.”
التكنولوجيا والهوية
يتحدث الخليل بن أحمد العبدلي، وهو مختص في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، عن إمكانية تفعيل ماهية الذكاء الاصطناعي بواقع الهوية في سياق أدب الطفل.
ويقول “إن الذكاء الاصطناعي يوفر فرصة هائلة لدمج الهوية الثقافية في أدب الطفل بشكل فاعل ومتقدم. ومن خلال أدوات متطورة يمكن تخصيص المحتوى القصصي والترفيهي ليناسب خلفية الطفل الثقافية واللغوية، مما يسهم في تعزيز هويته منذ الصغر، وذلك بإنشاء محتوى تفاعلي مخصص، وهنا يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء قصص تفاعلية ومصممة خصيصا لكل طفل، بحيث تكون الشخصيات، والأماكن، وحتى الحوارات مرتبطة بالبيئة الثقافية التي يعيش فيها الطفل. على سبيل المثال، يمكن أن تحتوي القصص على عناصر من التراث المحلي أو الأساطير الشعبية التي تمثل جزءا من الهوية الثقافية للطفل ويمكن أن تكون بلغات ولهجات محلية، مما يعزز من ارتباط الطفل بلغته الأم وتقاليده الثقافية.”
ويضيف “مع تعزيز الإبداع والتفاعل، يمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT لإنشاء قصص مبتكرة تعتمد على مدخلات الطفل، بحيث يصبح الطفل جزءا من عملية إنشاء القصة، مما يعزز من الشعور بالهوية والانتماء. على سبيل المثال، يمكن للطفل أن يختار نهايات مختلفة للقصة أو يشارك في بناء الشخصيات، مما يعزز الشعور بالملكية والإبداع.”
بالإضافة إلى ذلك يرى العبدلي أنه يمكن للأدب المخصص الذي يتم تطويره بواسطة الذكاء الاصطناعي أن يعكس تجارب الحياة اليومية للطفل، مما يعزز من الفهم العميق لقيمه وهويته، والاستفادة من تقنيات التعلم الآلي، في تحليل اهتمامات الطفل وسلوكياته القرائية والتعلمية، وبالتالي تقديم محتوى ثقافي وتعليمي يتناسب مع مستوى الفهم والعمر والبيئة الاجتماعية للطفل. هذا المحتوى المخصص يساعد الطفل على فهم هويته والتفاعل معها بشكل أعمق، كما يمكن للأطفال من خلفيات مختلفة الاستفادة من قصص تم تخصيصها وفقا لثقافاتهم الخاصة، سواء من خلال الأساطير المحلية، أو العادات والتقاليد.
ويتابع “الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتيح للأطفال قراءة قصص بلغتهم الأصلية، مما يحافظ على الهوية اللغوية، وفي الوقت نفسه يتيح لهم التعرف على ثقافات أخرى من خلال الترجمات التفاعلية التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، والأدوات التعليمية القائمة على الذكاء الاصطناعي يمكنها تقديم محتوى يعزز من الهوية الثقافية عبر توفير مفردات وأفكار من ثقافات متعددة، بالإضافة إلى التفاعل مع التراث الثقافي بشكل رقمي، ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز من ربط الأطفال بتراثهم الثقافي عبر تقديم قصص وحكايات تراثية بشكل رقمي تفاعلي، حيث يمكن للأطفال التفاعل مع الأحداث وتعلم القيم والمبادئ الثقافية بطريقة ممتعة وجاذبة، حيث يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحويل القصص الشعبية إلى ألعاب أو تجارب افتراضية تفاعلية.”
ويشير إلى أنه من بين ممكنات تعزيز التفاعل الاجتماعي والثقافي، أن الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل chatbots التفاعلية يمكن أن تُستخدم لربط الأطفال بتقاليدهم الثقافية من خلال المحادثات التفاعلية التي تسلط الضوء على القيم والعادات المحلية. كما يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير شخصيات خيالية مستوحاة من التراث المحلي لتعليم الأطفال عبر الألعاب أو القصص التفاعلية.
ويقول “إمكانية تفعيل الذكاء الاصطناعي بواقع الهوية في أدب الطفل تتمحور حول الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لإيجاد تجارب تعليمية وقصصية مخصصة تعزز من الهوية الثقافية. هذه التقنية تتيح تخصيص المحتوى وتفاعله مع القيم والتقاليد المحلية، مما يساعد الأطفال على تطوير ارتباط أعمق بثقافتهم ولغتهم وهويتهم. كما يتيح الذكاء الاصطناعي للأطفال التعرف على التراث الثقافي بشكل تفاعلي وممتع.”
وترى أنوار بنت علي الفارسية، وهي مختصة في الشؤون البصرية أن أبعاد الهوية الشخصية سواء على المستوى الأيديولوجي أو الاجتماعي تتداخل بشكل متزايد خلال السنوات القادمة مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، بحيث تندمج فيه التقانة والبيولوجيا، مما يمحو تدريجيا الحدود بين ما هو تقني وما هو إنساني بهدف مجاراة الذكاء البشري. ومع الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في التفاعل في شتى مناحي الحياة بطريقة غير مقصودة بسبب ما نقوم باستخدامه من برامج وتطبيقات تتبنى الذكاء الاصطناعي، قد يصبح البشر أقل ارتباطا بمحيطهم الاجتماعي، مما يؤدي إلى جمود العلاقات الإنسانية التي تعتمد على تواصل تقليدي، والذي قد يبدو غير متوافق مع التطور التقني المتسارع.
الذكاء الاصطناعي يوفر فرصة هائلة لدمج الهوية الثقافية في أدب الطفل بشكل فاعل ومتقدم رغم المخاوف التي تحيط به
وتضيف “الذكاء الاصطناعي من أهم التطورات التكنولوجية للعصر الحالي، ويؤثر على تفكير الفرد ويهيمن على حياته اليومية بشكل متنام بدءا من الأنشطة البسيطة التي يمارسها يوميا فكل ما يرتبط بالشخص من عملية شراء وبحث وإعجاب يترك بصمة رقمية تعكس تفضيلاته واهتمامه وسلوكه، وبالتالي فهي انعكاس للهوية بطريقة معقدة ومتعددة الأوجه توجد تفاعلا يبني جسورا من الألفة والترابط ما يجعل الفرد أكثر رغبة في الاعتماد عليه والارتباط بمقترحاته، فيقوم بإعادة شخصية الفرد وذاته ليتفاعل معه بصورة أكبر من خلال تحليل كل أحداثه بشكل تفصيلي يستطيع أن يغير تفكيره وسلوكه بشكل أكبر.”
وتوضح الفارسية “الهوية تعيد تشكيل أسسها عن طريق التفاعل الاجتماعي وفقا للتعرض إلى متغيرات، لذلك لا بد من توفير المعرفة والتدريب والتثقيف ودمجها في المناهج التربوية وحلقات عمل تدعم الفهم الآمن والأخلاقي للتكنولوجيا التي تسهم في تعزيز القيم بدلا من التأثير السلبي عليها بحيث يتم تطوير أدواتها لتستطيع التعامل مع العوامل التي تؤثر في الهوية، كما لا بد من وضع تشريعات وأطر قانونية تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي لتكفل احترام المعايير الأخلاقية والثقافية للمجتمع.”
وتدعو إلى الاستثمار في الأبحاث لمعرفة تأثيرها على المجتمع وتحقيق تكامل إيجابي بينها وبين الهوية وتشجيع الممارسات الثقافية الرقمية ودعم المبادرات التي تسهم في حفظ التراث الثقافي، وتحليل المحتوى لفتح آفاق جديدة للإبداع التكنولوجي دون فقدان الجوهر وتفعيل الذكاء الاصطناعي بطريقة تحترم الهوية لإيجاد مجتمع رقمي متكامل ومستدام يتميز بالتفاعل الصحي مع التكنولوجيا ويسهم في تعزيز الهوية الوطنية والثقافية.