البرلمان المصري يتحرك لمنع التمييز وسط قيود سياسية

القاهرة - يبدي النظام المصري اهتماما كبيرا بملف حقوق الإنسان ومنع التمييز بين المواطنين، باعتباره من الملفات التي تثير ضجيجا سياسيا حوله، ويسعى منذ فترة إلى استكمال الشكل الدستوري للكثير من الهيئات التي تحسن صورته أمام الدول المعنية بهذه القضايا وتتخذها دائما تكئة لتوجيه انتقادات سياسية له، ولذلك لجأ إلى تفعيل مشروع إنشاء مفوضية لمكافحة التمييز قبل أيام.
وتسعى القاهرة إلى تبني سياسات تتسق مع الإطار القانوني والإنساني على المستوى الدولي بالطريقة التي تتواءم مع نظرتها المحلية إلى هذه القضايا، وغالبا ما تأتي غير منسجمة مع التطلعات الخارجية، حيث تكيّفها بما يتناسب مع رؤيتها الداخلية.
وأقر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ أكثر من عام “الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” لتأكيد أن بلاده تقدّر وتحترم هذا المجال وتقبل بالمعايير الدولية، غير أن مسألة التطبيق تترك لتقديرات الدولة التي تختار ما يتناسب مع ظروفها، فهذه الإستراتيجية لم تحصر حقوق الإنسان في الجوانب السياسية، كما تريد منظمات دولية عديدة، ومدت الخيط ليشمل الحق في المأكل والملبس والمشرب وغيرها.
وعندما زادت المضايقات التي تتعرض لها القاهرة بحجة التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو اجتماعي، لجأت إلى التفكير في تشكيل مفوضية لمكافحة التمييز أشار إليها الدستور المصري، لكنها لم تر النور ولم يتم طرحها للنقاش العام.
وربما يعود ذلك إلى أنها قضية ليست عاجلة وليست من أولويات المرحلة، وربما لأن الانتقادات التي توجه إليها خاصة بشأن الموقف المعقد بين المسلمين الأقباط الذين يمثلون أقلية في مصر خفّت حدتها عقب تقويض نفوذ التيار الإسلامي وتلبية الكثير من مطالب الأقباط حيال بناء الكنائس وتجديد دور العبادة المسيحية وترسيخ قيم المواطنة.
وطفا على السطح ملف مفوضية مكافحة التمييز بعد أن أحال رئيس مجلس النواب حنفي جبالي مشروعا حولها أخيرا، كانت قد تقدمت به النائبة عن الحزب المصري الديمقراطي (معارض) مها عبدالناصر، وطالب بمناقشته داخل لجنة مشتركة من الشؤون الدستورية والتشريعية وحقوق الإنسان في البرلمان المصري.
وكشفت عبدالناصر مقتطفات من أهداف المشروع، وقالت إنه يأتي وفاء لاستحقاق دستوري جاء فيه: “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة لا تمييز بينهم على أساس الدين، أو العقيدة، أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي، أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر.. وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض”.
وتعد هذه أول خطوة عملية تتخذ في مجال تشكيل المفوضية لتكون تابعة للبرلمان منذ الإعلان عنها في يناير 2016 بهدف القضاء على التمييز وفقا للدستور، ومن صلاحياتها التحقق من أن أجهزة الدولة ومؤسسات العمل الأهلي “لا تمارس أي نوع من التمييز بين المواطنين، ووضع خطة لإزالته إذا وجد خلال فترة زمنية محددة”.
وأكد مدير مؤسسة ماعت للتنمية والمتخصصة في حقوق الإنسان أيمن عقيل أن تحرك البرلمان لإنشاء المفوضية الآن هو جزء من الالتزام الدستوري للحكومة، لكن الخطوة تواجه تحديات عدة، على رأسها استمرار الخطاب الديني المتشدد في ممارسة هوياته في التمييز، وعدم مبارحة الموروثات الثقافية والفكرية المعقدة ذهن الكثير من المسؤولين، ما يتطلب إرادة سياسية قوية وحقيقية للقضاء على كل أشكال التمييز.
المفوضية تستطيع أن تطلب المستندات اللازمة من الجهات المختلفة واستدعاء الشهود والخبراء للشهادة أمامها
وأوضح لـ”العرب” أن “هناك شواهد كثيرة تفيد بأن الحكومة لديها استعدادات لمواجهة التمييز السياسي والديني والاجتماعي، لكن ذلك يتطلب مضاعفة الجهود وإدخال المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان طرفا أصيلا في متابعة تنفيذ مواجهة التمييز، فلا يعقل أن يتم اختزال التصدي للعنصرية في كيانات فردية ومن دون اصطحابها بإجراءات جادة على الأرض، وهذا دور المنظمات الحقوقية الوطنية”.
وأشار إلى أن القضاء على التمييز جزء أصيل من إستراتيجية حقوق الإنسان، ولا يجب الاهتمام بملف أكثر من الآخر، وينبغي السير بشكل متوازن في القضايا المرتبطة بالحالة الحقوقية في مصر، لكن تظل التيارات الظلامية السلفية عائقا أمام الحكومة في سعيها لغلق ملف التمييز، لأنها تستهدف فئات محددة بخطاب ترهيبي، مثل الأقباط، وهذا يتطلب جرأة سياسية من الحكومة وعملا دؤوبا لمواجهة المتشددين دينيا وفكريا.
وفسر متابعون إحياء مشروع المفوضية بأن الرئيس السيسي يريد الوفاء بكل الاستحقاقات التي يتضمنها الدستور ويعزز تمسكه بنصوصه قبل أن يقدم على الترشح رسميا مرة أخرى في انتخابات الرئاسة المنتظر إجراؤها في منتصف العام المقبل.
وقال هؤلاء المتابعون “إن التمسك بهذا النوع من الهياكل يتوقف عند حدود الشكل، لأن مضمونها يتطلب توسيع نطاق الفضاء العام وإتاحة الفرصة لممارسة الحريات السياسية بمفهومها الشامل، ما يعني أن مفوضية مكافحة التمييز يمكن أن تصبح حبرا على ورق ولا تقوم بأداء مهامها بالصورة المطلوبة لتحقيق أهدافها”.
وتستطيع المفوضية أن تطلب المستندات اللازمة من الجهات المختلفة واستدعاء الشهود والخبراء للشهادة أمامها ومخاطبة الجهات المعنية وإبلاغها بالمخالفات التي تستدعي التحقيق، وفي مقدمة مهامها التعريف بعملها والتوعية بطبيعة هذا العمل.
وبالرغم من أن الخطوة لن تضيف جديدا بسبب القيود السياسية والضوابط الصارمة التي تضعها الدولة على أداء هذه الكيانات، إلا أن ظهورها يمكن أن يوفر شبكة أمان جديدة للجهات أو الجماعات التي تشكو من التمييز، وتحتاج إلى قناة توصل صوتها من خلالها.