الباحث محمد شاهين يواصل تفكيك أفكار إدوارد سعيد

بيروت- يواصل الباحث محمد شاهين مقارباته لمنجز المفكر الفلسطيني – الأميركي إدوارد سعيد من خلال كتابه الجديد بعنوان “إدوارد سعيد – الاستشراق: سيرة ومسيرة” والذي جاء في 136 صفحة.
ووفقاً لشاهين لم يكن إدوارد سعيد فقط مجرد أستاذ أكاديمي تنقل في مسيرته العلمية الطويلة بين أعرق الجامعات الأميركية وتدرج في مراتبها الأكاديمية إلى أن وصل أعلاها، ومنها انطلق إلى سائر بقاع العالم يحمل رسالة كونية في الفكر والسياسة؛ فإضافة إلى ذلك أصبح وجوده في جامعة كولومبيا مركز إشعاع ثقافي “يحمل جاذبية خاصة يؤمها مفكرو العصر من مختلف أجزاء المعمورة”.
ويضيف شاهين أن المفكر الراحل “شهد له القاصي والداني بفكره الفكتوري في مختلف فروع المعرفة التي استطاع أن ينفذ إلى أعماقها ويُخرجها وقد تقاطعت على يديه برؤية جعلتنا نصل إلى مغازيها التي كانت خفية علينا”.
ويرى أن كتاب “الاستشراق” الذي ظهر بالإنجليزية عام 1978، مثل نقطة انطلاقة مازالت تحمل تداعيات مهمة في العلاقة بين الغرب والشرق؛ إذ “استطاعت أن تلم شمل هذه العلاقة الشائكة والتي مازالت كذلك، وكأن تلك العلاقة كانت قبل الكشف عنها في الاستشراق مغيبة عن أصحاب الشرق لكثرة ما بذل الغرب من جهده لإخفاء مكانتها في المنظومة الاستعمارية؛ بمعنى أن الشرق نفسه كان مغيباً عن معرفة نفسه واستشراقه من قبل الغرب”.
ونال سعيد شهرة واسعة من خلال كتابه “الاستشراق”، الذي نقله إلى العربية بصعوبة كمال أبوديب، وقدم الكتاب الكثير من الأفكار الجديدة عن دراسات الاستشراق الغربية المتخصصة في دراسة ثقافة الشرقيين، وقد ربط إدوارد سعيد دراسات الاستشراق بالمجتمعات الإمبريالية واعتبره منتجا لتلك المجتمعات، ما جعل من أعمال الاستشراق أعمالا سياسية في لبها وخاضعة للسلطة.
ويوضح شاهين فكرته السابقة بقوله إن الشرق العربي قبل الاستشراق كان حكرا، في صورته، على أقلام المستشرقين الذين أقصوه عن حقيقة وجوده ليس فقط بالنسبة لأهله، بل بالنسبة للعالم الذي تعامل الغرب معه، علاوة على أن الكثير من أبناء العروبة الذين تعاملوا مع الاستشراق كانوا، أصلا، طلبة مطيعين لاستشراق أساتذتهم، وعلى رأسهم المستشرق المعروف بيرنارد لويس، الذي خلفت هيمنة استشراقه أثرا بالغا في العديد من طلبته؛ إذ نهجوا نهجا موازيا.
ويؤكد أن الحال ظلت هكذا إلى أن جاء إدوارد سعيد وقلب موازين المعادلة رأسا على عقب، من خلال “الاستشراق” الذي أضحى نقطة تحول مهمة في سيرة ومسيرة شأن الاستشراق الكبير، والعلاقة بين الشرق العربي والغرب إلى يومنا هذا. أي أن الاستشراق اكتسب حقائق واقع برزت من جديد، كان لا بد أن تظهر مع ظهور “استشراق” إدوارد سعيد.
ويستعيد الكتاب أفكار سعيد انطلاقا من أنه لا جدال في أن هذا المفكر يعد واحدا من أهم المفكرين الذين غيروا نمط التفكير في نصف القرن الأخير، وهذا على أكثر من مستوى، خاصة على مستوى التنظير النقدي، بتركيز النظرية وتتبع ارتحالاتها، وهو ما أسفر عن استحداثه النظرية الطباقية في قراءة الأعمال الأدبية، أو النقد الدنيوي، وقبلها بتسليط الضوء على الاستشراق، وتقديم جهد لافت في قراءة المشروعات الاستشراقية وكشْف أغْراضِها، وسعيه لتصحيح الصورة المغلوطة التي رسمتها المخيلة الاستشراقية عن الشرق.
كتاب "الاستشراق" مثار جدل دائم، وباعثا على الكثير من الأسئلة التي تتعلق بمنظورات الشرق والهويات الغربية والشرقية، والصراعات التي ظلت تكتنف عالم هذا الشرق
وكان إدوارد سعيد قد اتخذ مواقف عميقة من العالم، ومن نظم تفكيره، بدءا من الهيمنة الثقافية التاريخية، ووصولا إلى الاستبداد في العالم العربي، ولم يتسامح معها وانتقدها بكل وسيلة، وكان يناقش الشؤون الثقافية والسياسية والفنية والأدبية جميعها دون أن يترك حدا فاصلا بين تلك المجالات، مقدما صورة المثقف الشامل التي تحدث عنها قبل وفاته مسهبا، ناقدا محللا ومركبا للأفكار.
وأسس سعيد لمفهوم الشرق السياسي والشرق العنصري، اللذين اصطنع لهما الخطاب الغربي فضاء من التخيّلات التي تتعالق مع الهيمنة المعرفية والسياسية، حيث ينطلق الاستشراق من كونه مؤسسة إمبريالية كما يسميها سعيد، تقف خلفها جماعات وتوجهات سياسية وتجارية تسعى إلى معرفة الشرق والسيطرة عليه.
ويظل كتاب “الاستشراق” للمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد مثار جدل دائم، وباعثا على الكثير من الأسئلة التي تتعلق بمنظورات الشرق والهويات الغربية والشرقية، والصراعات التي ظلت تكتنف عالم هذا الشرق، علاوة على نظريات سعيد التي لا تزال تحتاج إلى بحث أعمق لتأسيس رؤية أكثر تماسكا في ظل عالم يزداد اضطرابا يوما بعد يوم.
ويذكر أن كتاب “إدوارد سعيد – الاستشراق: سيرة ومسيرة” صدر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وهو استكمال لمشروع الباحث في تتبع أفكار سعيد، فقد سبق لمحمد شاهين أن أصدر عن إدوارد سعيد “إدوارد سعيد.. رواية للأجيال” (2005)، “إدوارد سعيد.. أسفار في عالم الثقافة” (2007)، “إدوارد سعيد.. دراسات ومقدمات مختارة” (2022)، “إدوارد سعيد.. رسالة مفتوحة غير منشورة ومقالات أخرى” (2023).