الانتخابات.. ما نفعها أصلا

هل لاحظت، عزيزي القارئ، أن كل أنظمة الاستبداد والطغيان والفساد، تجري انتخابات، ثم تفوز؟ هل سألت نفسك عن السبب؟ أم هل سألت نفسك إن كانت الديمقراطية نفسها هي العيب؟ فهي بينما تنتج حكومات تتغير، حسب تغير المزاج العام في بعض دول العالم، فإن حكومات الاستبداد والطغيان والفساد لا تتغير حتى ولو تغير المزاج العام. بل إن هذا المزاج نفسه لا يتغير.
فإذا كان ذلك كذلك، فما نفع الانتخابات أصلا. وما الذي يجعلها ممارسة تتكرر من دون أن تعني شيئا؟
هناك شيء واحد حاسم يجعل الانتخابات، إما صنعة من صنائع الديمقراطية، وإما صنعة من صنائع الاستبداد. هو ماذا إذا كان الشعب الذي يذهب إلى صناديق الاقتراع، هو قطيع مكموم الأفواه، مغلق العقل، أم أنه شعب حر يجرؤ على إثارة الأسئلة وتوجيه النقد وملاحقة الانتهاكات.
آخر مرة ذهبتُ فيها إلى صندوق الاقتراع كانت قبل أكثر من 20 سنة، هنا في بريطانيا. وحيث أني جئت من بلد يمارس الانتخابات بوصفها مسرحا لعرض التمثيلية نفسها، فقد غمرتني الغبطة بأن أكون ناخبا بين الناخبين. فانتخبت حزب العمال البريطاني بقيادة توني بلير. قطيع كبير من “المواطنين” فعل ما فعلت. ولكن لم يطل الوقت قبل أن أكتشف أن الزبالة هي نفسها. فلم أذهب مرة أخرى أبدا، لا في انتخابات برلمانية، ولا في انتخابات بلدية. ولن أفعل أبدا.
◙ الطاغية قبل الانتخابات يرفع الرواتب في ممارسة مألوفة من ممارسات الرشوة الجماعية وحيث أنه يتصرف بالمال العام وكأنه ورثه من أبيه فإنه لا يتوقع أن يسأله أحد كيف تجيز لنفسك هذا
هذا في بريطانيا العظمى، وهي أم الديمقراطية، التي يعد برلمانها أبوالبرلمانات. ولها تاريخ طويل في احترام الحريات الفردية، واستقلال القضاء، وسيادة القانون، وكل ما إلى ذلك من لوازم الحياة الحرة الكريمة. وأشهد أني حر وحياتي كريمة، سوى أن الأحزاب في هذا البلد، تظل في النهاية ترعى مصالح الإمبريالية، وأن “الأمة” نفسها، أمة إمبريالية تصمت عن الحق، إلا ببضع تظاهرات لا تقدم ولا تؤخر، عندما يتعلق الأمر بمكاسب تجنيها من حروب في الخارج، وأعمال ابتزاز للدول الضعيفة، وسياسات نهب واستغلال تمارسها الشركات الكبرى. ولقد كففت عن أن أخدع نفسي. وقلت إني لست فردا في قطيع.
فما بالك بدول القهر والاستبداد والطغيان؟
المستبدون في هذه الدول، يدعون قطعان شعبهم إلى الانتخابات، لأجل شيء واحد فقط، هو أن يكسبوا من وراء التمثيلية “شرعية” يتظاهرون بها أمام “العالم المتحضر”. صحيح أن أحدا في الخارج، لا يؤمن بمخرجات التمثيلية أو أنها جديرة بالتصديق، إلا أن أحدا في الوقت نفسه، لا يريد أن يتورط في سجالات عقيمة. والخارج، يستفيد على أيّ حال من تلك التمثيلية لكي يزيد ضغوطه على حكومات المسرح، فيكسب منافع إضافية، بأن يُعرّض تلك الحكومات للابتزاز، وينكش، بين الحين والآخر، سجلاتها المتعلقة بحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق الحيوان،… الخ.
وعادة ما يُفصّل المستبدون ديكور المسرح كما يرونه مناسبا. وقد يجعلونه مبهرا بوجود منافس، يضحكون عليه، ويستخفّون بدعواته إلى التغيير، لاسيما وأنهم يمسكون بكل خيوط اللعبة.
الطاغية، قبل الانتخابات، يرفع الرواتب، في ممارسة مألوفة من ممارسات الرشوة الجماعية. وحيث أنه يتصرف بالمال العام، وكأنه ورثه من أبيه، فإنه لا يتوقع أن يسأله أحد، كيف تجيز لنفسك أن تقدم أموالا من الخزانة العامة لا تملك حق التصرف فيها من دون تدقيق محاسبي، أو من دون أن تقول ما هي الأصول التي تستند إليها؟ أو ما إذا كانت مجرد طباعة جديدة للورق سرعان ما تؤدي إلى ارتفاع الأسعار والتضخم، فتذوب تلك الرواتب كما يذوب الملح في الماء.
ويستعرض المستبد منجزات، حقيقية أو وهمية، ولكنه يحشدها لأيام الانتخابات، ليضمن استرضاء القطيع. وإذا شعر، من قبل أن تبدأ الانتخابات، بوجود مرشّح محتمل يمكن أن يهدده، فإنه يعتقله لأيّ سبب، ويصدر حكما يمنعه من دخول الانتخابات، أو يبحث له عن فضيحة، أو يوجه له تهمة بالتعاون مع الإرهاب. وبما أن أجهزة الدولة تعمل في صالحه، وهي ما يكاد يعادل دبابة في مواجهة فرد، تكاد أدواته لا ترقى إلى مستوى دراجة هوائية، فلك أن تعرف من هو الفائز في النهاية.
وأما القضاء، فإنه دبابة أخرى، يحركها الزيف والزور ويتحكم بأمرها بطل المسرحية، ما يجعله جهازا لقنونة التعسف وشرعنة الباطل وتأبيد القهر والحرمان ضد كل من تسوّل له نفسه بأن يتحدى بطل المسرحية، أو حتى أن يوجه له سؤالا محرجا.
◙ المستبدون في دول القهر والاستبداد والطغيان، يدعون قطعان شعبهم إلى الانتخابات، لأجل شيء واحد فقط، هو أن يكسبوا من وراء التمثيلية "شرعية" يتظاهرون بها أمام "العالم المتحضر"
وأما الإعلام، فإنه زفة معدة مسبقا للتطبيل والتزمير وتمجيد القائد البطل، واستعراض مكارمه الأخلاقية، ومواهبه العبقرية، وقدراته الخارقة على تحقيق المعجزات، وإنجاز العجائب. وكم أنه عطوف وكريم، وكم أنه ابن الشعب البار الذي يحب مساعدة الفقراء ويداعب الأطفال، ولا ينظر إلى النساء بغير نظرة الاحترام. وذلك فوق أنه “مؤمن”، يصلّي قبل اعتقال معارضيه، ويصلّي بعد صدور الأحكام ضدهم.
كل هذا الديكور، إنما يُصنع من أجل اكتساب تلك “الشرعية” الزائفة، فيعود بطل المسرحية ليكون ابنا بارا بكرسيّه، مطمئنا إلى أن كل دبابات الدولة تعمل لصالحه، وتخدم فوزه، ليس في هذه الانتخابات وحدها، وإنما في كل انتخابات مقبلة.
ولكن المشكلة ليست هنا. المشكلة ليست في هذا كله.
المشكلة تكمن في القطيع مكموم الأفواه، مغلق العقل، الذي يذهب، بعد أن قبض كل الرشاوى، وأسعد نفسه بمخادعات الديكور، لينتخب الطاغية.
هذا هو المطيّ الحقيقي، الذي يقول للطاغية وجلاوزته، تعالوا فاركبوني.
في النهاية، يستطيع الناخب، حتى إذا كان مضطرا، أن يضع ورقة بيضاء، لأجل أن يقول لنفسه على الأقل، إنه ليس فردا مكموما، وإن له ضميرا يخزه.
لن يعدم جلاوزة الطاغية سبلا للتزوير. كما أنهم لن يعجزوا عن اختراع أرقام ونسب تضمن الفوز، إلا أن الناخب يستطيع أن ينأى بنفسه عن هذه اللعبة.
فإذا وجدت شعبا يذهب ثلاثة أرباعه لخوض الانتخابات في ظل مسرحية، أحيطت بكل دبابات الطغيان لتضمن الفوز للطاغية، فإنك لن تحتاج الكثير لتعرف كم هو عدد الذين استغنوا عن ضمائرهم فيه. نتائج الانتخابات سوف تعطيك الأرقام بالتفصيل.