الاقتصاد العالمي ينزلق نحو دوامة انكماش قاسية

تصاعد قلق المحللين من انزلاق الاقتصاد العالمي بشكل متسارع في منحدر الانكماش مع اقتراب العام الجديد، في ظل محنة التضخم التي لا تزال جاثمة على الأعمال والاستثمار وعلى المستهلكين رغم محاولات الحكومات لمجاراة الوضع بالأدوات المتاحة لديها.
باريس - تبددت الآمال في تحقيق الاقتصاد العالمي ازدهارا هذا العام بعدما واجه سلسلة أزمات من ارتفاع حاد في الأسعار وزيادة معدلات الفائدة بسبب الحرب في شرق أوروبا إلى جانب الاحترار المناخي وغيرها، منذرة بعام قاتم في 2023.
وبحسب المؤرخ آدم تووز الذي تحدث لوكالة الصحافة الفرنسية عن صدمات متباينة تتفاعل معا لتجعل الوضع العام في غاية الصعوبة، فإن 2022 سيبقى في التاريخ عاما “متعدد الأزمات”.
ولم يكن رويل بيتسما أستاذ الاقتصاد في جامعة أمستردام بعيدا عن هذا الوصف حينما قال إن هذه الصدمات “تزايدت منذ بداية القرن” مع الأزمة المالية عام 2008 وأزمة الديون السيادية ووباء كوفيد – 19 وأزمة الطاقة.
ورأى أن العالم “لم يشهد وضعا بهذا القدر من التعقيد منذ الحرب العالمية الثانية”.
وينسجم موقف بيتسما مع تحذيرات صندوق النقد الدولي الذي أكد قبل أسابيع أن الاقتصاد العالمي يواجه بشكل متزايد خطر الركود، وقد يخسر 4 تريليونات دولار من الناتج الإجمالي حتى 2026، وهي “انتكاسة هائلة” تعادل تقريبا حجم الاقتصاد الألماني.
وبعد سنوات من التضخم الضعيف أو حتى المستقر، كان الخبراء يُجمعون قبل عام على أن عودة التضخم ستكون مرحلية بالتزامن مع الانتعاش الاقتصادي بعد أزمة تفشي وباء كوفيد. غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا والارتفاع الحاد في أسعار الطاقة بدّلا الوضع.
وسجل التضخم مستويات غير مسبوقة منذ السبعينات والثمانينات، دافعا الملايين من العائلات في الدول النامية إلى الفقر ومهددا الأسر في الدول الفقيرة بالمزيد من البؤس.
غير أنه بدأ يتباطأ إلى عشرة في المئة بمنطقة اليورو في نوفمبر الماضي وستة في المئة بالولايات المتحدة في أكتوبر الماضي.
ومن المتوقع أن يصل التضخم إلى 8 في المئة بنهاية الربع الأخير من هذا العام في الدول المتطورة والناشئة الكبرى من مجموعة العشرين، قبل أن يتراجع إلى 5.5 في المئة في 2023 و2024، بحسب منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي.
وأوصت المنظمة بمنح مساعدات محددة الأهداف بشكل أكثر دقة لتسوية هذه المشكلة، ولاسيما في فرنسا وألمانيا اللتين اضطرتا إلى معاودة الإنفاق لتخصيص مساعدات للأسر والشركات.
وفي الاتحاد الأوروبي وحده، قطعت الدول وعودا بمنح هذه الأسر 674 مليار يورو من المساعدات منذ سبتمبر 2021، بحسب مركز بروغل للدراسات.
ووفق تحقيق أجراه مكتب إي.واي، فإن من ضمن تلك الوعود 264 مليار يورو في ألمانيا حيث يعلن نصف السكان أن مشترياتهم باتت تقتصر على المنتجات الأساسية حصرا.
وقالت نيكول أيزرمان التي تدير كشكا في سوق عيد الميلاد في فرانكفورت “كل شيء أصبح أغلى، من الكريما إلى النبيذ مرورا بالكهرباء”.
وعلى مقربة منها قال بائع آخر يدعى غونتر بلوم “سوف أحترس، لكن لديّ الكثير من الأولاد والأحفاد” الذين ينتظرون الهدايا.
وإزاء هذه الصعوبات، عمد حكام البنوك المركزية المكلفين بشكل أساسي بالحفاظ على استقرار الأسعار، إلى معاودة زيادة معدلات الفائدة.
لكن هذه الإستراتيجية تشدد الضغط على الاقتصاد عبر زيادة كلفة الاقتراض على الأسر والشركات. والأمر نفسه ينطبق على الدول التي ازدادت مديونيتها بعد الأزمة المالية والأزمة الصحية، وبات بعضها مهددا بانعدام الاستقرار وصولا إلى التخلف عن السداد.
وصدر بصيص أمل من الولايات المتحدة مع إعلان رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) جيروم باول أنه قد يبطئ وتيرة رفع معدلات الفائدة في ديسمبر، محذرا في الوقت نفسه من أنها قد تبقى مرتفعة “لفترة من الوقت”.
أما البنك المركزي الأوروبي فيعتقد أنه مازال بعيدا من نقطة الاستقرار، دون القيام بتكهنات للعام 2023. وإن كان من المؤكد أنه سيزيد معدلات الفائدة في ديسمبر الحالي، فمن المرجح أن تكون الزيادة أدنى منها في أكتوبر.
ومازال العالم بعيدا عن الركود المعمم العام المقبل، مع توقع نمو بنسبة 2.7 في المئة وفق صندوق النقد و2.2 في المئة وفق منظمة الأمن والتعاون في الميدان الاقتصادي.
لكن المملكة المتحدة دخلت “في ركود” ويعتقد الكثير من خبراء الاقتصاد أن ألمانيا وإيطاليا ستتبعانها.
وبالنسبة إلى منطقة اليورو ككل، تتوقع وكالة أس أند بي غلوبال للتصنيف الائتماني وضعا على قدر خاص من الصعوبة في الفصل الأول من السنة وركودا على مدى العام المقبل، ما يعكس تدهورا جديدا في الآفاق الاقتصادية بعد التوقعات السلبية التي وردت طوال 2022.
وبموازاة ذلك، بدأت القاطرة الصينية تظهر بوادر تباطؤ، إذ يعاني الاستهلاك وإنتاج الصناعات التحويلية من عواقب إستراتيجية مكافحة كوفيد التي تواجه احتجاجات متزايدة، وتتأثر الصادرات بتبعات التباطؤ العالمي.
وشرح خبراء أس آند بي غلوبال أن “الولايات المتحدة تعاني من مشكلة تقليدية هي فرط النشاط الاقتصادي، يفترض أن تتبدد من تلقاء ذاتها”.
وأشاروا إلى أن “التحول في مجال الطاقة في أوروبا سيستغرق سنوات ولا أحد يعرف متى ستخرج الصين من سياسة صفر كوفيد الصارمة التي تعتمدها”. لكن بيتسما رأى أن “أسوأ الأزمات هي أزمة المناخ التي تتطور ببطء”.
وإزاء تزايد الكوارث، تبقى الطموحات محدودة للغاية، وهو ما ظهر من خلال مؤتمر الأطراف حول المناخ (كوب 27) الذي فشل في تحديد أهداف جديدة لخفض انبعاثات غازات الدفيئة.
وكذلك عكست الصعوبة التي تواجهها الدول في التعامل مع الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، بطء عملية التحول. ويقول بيتسما إنه “إذا لم نبذل ما يكفي من الجهود، فسوف نواجه صعوبة على نطاق لم نعرف له مثيلا من قبل”.